شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : العلوم المستنبطة من القرآن


جمانة كتبي
06-21-2011, 09:09 PM
العلوم المستنبطة من القرآن




قال تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [ الأنعام : 38 ] ، وقال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [ النحل : 89 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن" قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره.
وأخرج سعيد بن منصور ، عن ابن مسعود قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن ، فإن فيه خبر الأولين والآخرين" قال: البيهقي: يعني أصول العلم.
وأخرج البيهقي عن الحسن ، قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن.
وقال أيضا: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو مما فهمه من القرآن.
قلت: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل إلا ما أحل الله ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" ؛ أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم.
وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لى وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله.
وقال ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله تعالى ، أخرجهما ابن أبي حاتم.
وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ، فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ، قلنا: ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة ، لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفرض علينا الأخذ بقوله.
وقال الشافعي مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه في كتاب الله ، فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [ الحشر : 7 ] .
وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حِراش ، عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبو بكر وعمر".
وحدثنا سفيان ، عن مسعر بن كِدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب ؛ أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.
وأخرج البخاري ، عن ابن مسعود ، أنه قال: "لعن الله الواشمات والمتوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله تعالى" فبلغ ذلك امرأة من بني أسد ، فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت كيت! فقال: ومالي لا ألعن مَن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله تعالى! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه كما تقول ؛ قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأتِ: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } قالت: بلى ، قال: فإنه قد نهى عنه.
وحكى ابن سراقة في كتاب الإعجاز ، عن أبي بكر بن مجاهد ، أنه قال يوما: ما شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله ، فقيل له: فأين ذكر الخانات فيه؟ فقال في قوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [ النور : 29 ] فهي الخانات.
وقال ابن برجان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن به أو فيه أصله ، قَرُب أو بَعُد ، فهِمه من فهمه ، وعمِهَ عنه من عَمِه ، وكذا كل ما حكم به أو قضى ، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده ، وبذل وسعه ومقدار فهمه.
وقال غيره: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهّمه الله ، حتى إن بعضهم استنبط عُمْرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، ثلاثا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين: { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [ المنافقون : 11 ] ؛ فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقّبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.
وقال ابن أبي الفضل المرسي في تفسيره: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين ، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم بها ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى ؛ ثم ورث ذلك عنه معظم سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس ، حتى قال: لو ضاع لي عِقَال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ؛ ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم ، وفترت العزائم ، وتضاءل أهل العلم ، وضَعُفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه ، وسائر فنونه ، فنوّعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفنٍّ من فنونه ،فاعتنى قوم بضبط لغاتِه ، وتحرير كلماته ، ومعرفة مخارج حروفه وعددها ، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه ، وعدد سجداته ، والتعليم عند كل عشر آيات ، إلى غير ذلك من حَصْر الكلمات المتشابهة ، والآيات المتماثلة ؛ من غير تعرض لمعانيه ، ولا تدبر لما أودع فيه ، فسُمُّوا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرَب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها ، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال ، واللازم والمتعدي ، ورسوم خط الكلمات ، وجميع ما يتعلق به حتى إن بعضهم أعرب مشكله ، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه ، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ، ولفظا يدل على معنيين ، ولفظا يدل على أكثر ، فأجروا الأول على حكمه ، وأوضحوا معنى الخفي منه ، وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني ، وأعمل كل منهم فكره ، وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية ، مثل قوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [ الأنبياء : 22 ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ، فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه ، وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به ، وسموا هذا العلم بأصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه ، فرأت منها ما يقتضي العموم ، ومنها ما يقتضي الخصوص ، إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز ، وتكلموا في التخصيص والإخبار ، والنص والظاهر ، والمجمل والمحكم والمتشابه ، والأمر والنهي ، والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء ، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر ، فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام ، فأسسوا أصوله ، وفرعوا فروعه ، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا ، وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضا.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية ، ونقلوا أخبارهم ، ودونوا آثارهم ووقائعهم ، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء ، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ ، التي تقلقل قلوب الرجال ، وتكاد تُدكدك الجبال ، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد ، والتحذير والتبشير ؛ وذكر الموت والمعاد ، والنشر والحشر والحساب ، والعقاب ، والجنة والنار فصولا من المواعظ ، وأصولا من الزواجر ؛ فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير ؛ مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان ، وفي منامي صاحبي السجن ، وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة ، وسموه تعبير الرؤيا. واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب ؛ فإن عزّ عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب ؛ فإن عسر فمن الحكم والأمثال ، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم ، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: " { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [ الأعراف : 99 ].
وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها ، وغير ذلك علم الفرائض ، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ، ومسائل العَوْل ، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحِكَم الباهرة في الليل والنهار ، والشمس والقمر ومنازله ، والنجوم والبروج وغير ذلك ؛ فاستخرجوا منه علم المواقيت.
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق ، والمبادئ والمقاطع والمخالص ، والتلوين في الخطاب ، والإطناب والإيجاز وغير ذلك ، فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة ، فلاح لهم من ألفاظه معانٍ ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها ، مثل الفناء ، والبقاء ، والحضور ، والخوف ، والهيبة ، والأنس ، والوحشة ، والقبض ، والبسط ، وما أشبه ذلك ، هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه.
وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل ، مثل الطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة ، والجبر ، والمقابلة ، والنِّجامة ، وغير ذلك ؛ أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة ؛ وذلك إنما باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة ، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله تعالى: { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [ الفرقان : 67 ] ، وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله ، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى: { شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [ النحل : 69 ] ، ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ففي تضاعيف سُوَرِه ، من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض ، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة ففي قوله: { انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ..} الآية [ المرسلات : 30 ].
وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين ، والمقدمات ، والنتائج ، والقول بالموجب والمعارضة ، وغير ذلك شيئا كثيرا ، ومناظرة إبراهيم نمرود ومحاجّته قومَه أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة ، فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مُدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة ، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة ، وتاريخ مدة أيام الدنيا ، وما مضى وما بقي ، مضروب بعضها في بعض.
وأما النِّجامة ففي قوله: { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } [ الأحقاف : 4 ] ، فقد فسره بذلك ابن عباس.
وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها ، كالخياطة في قوله: { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} [ الأعراف : 22 ].
والحدادة { آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [ الكهف : 96 ] ، { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ..} الآية [ سبأ : 10 ].
والبناء في آيات.
والنجارة { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [ هود : 37 ].
والغزل { نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [ النحل : 92 ].
والنسج { كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [ العنكبوت : 41 ].
والفلاحة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ...} الآيات [ الواقعة : 63 ].
والصيد في آيات.
والغوص { كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ ص : 37 ] ، { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} [ النحل : 14 ].
والصّياغة { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} [ الأعراف : 148 ].
والزِّجاجة {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [ النمل : 44 ] ، { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [ النور : 35 ].
والفخارة { فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [ القصص : 38 ].
والملاحة { أَمَّا السَّفِينَةُ ...} الآية [ الكهف : 79 ].
والكتابة { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [ العلق : 4 ].
والخبز { أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [ يوسف : 36 ].
والطبخ { بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [ هود : 69 ].
والغسل والقصارة { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [ المدثر : 4 ] قال: الحواريون، وهم القصارون.
والجزارة { إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [ المائدة : 3 ].
والبيع والشراء في آيات.
والصبغ { صِبْغَةَ اللَّهِ} [ البقرة : 138 ] ، { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [ فاطر : 27 ].
والحجارة { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [ الشعراء : 149 ]. والكيالة والوزن في آيات ، والرمي { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } [ الأنفال : 17 ] ، { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [ الأنفال : 60 ].
وفيه من أسماء الآلات ، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [ الأنعام : 38 ]. انتهى كلام المرسي ملخصا.
وقال ابن سراقة: من بعض وجوه إعجاز القرآن ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب والجمع والقسمة والضرب ، والموافقة ، والتأليف ، والمناسبة والتنصيف ، والمضاعفة ، ليعلم بذلك أهل العلم بالحساب أنه صلى الله عليه وسلم صادق في قوله ، وأن القرآن ليس من عنده ؛ إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ولا تلقى الحساب ، وأهل الهندسة.
وقال الراغب: إن الله تعالى كما جعل نبوة النبيين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مختتمة ، وشرائعهم بشريعته من وجه منتسخة ، ومن وجه مكملة متممة ، جعل كتابه المنزل عليه متضمنا لثمرة كتبه التي أولاها أولئك ، كما نبه عليه بقوله: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [ البينة : 2 ، 3 ] ، وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم ، بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه ، والآلات الدنيوية عن استيفائه كما نبه عليه بقوله: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان : 27 ] ، فهو وإن كان لا يخلو للناظر فيه من نور ما يريه ونفع ما يوليه:

كالبـدر مـن حيث التفـت رأيتـه يهدي إلى عينيك نـورا ثاقبا


كالشمس في كبد السماء وضوءها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا

وأخرج أبو نعيم وغيره ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، قال: قيل لموسى عليه السلام: يا موسى ؛ إنما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن ؛ كلما مخضته أخرجت زبدته.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل: علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم ، وسبعة آلاف علم ، وسبعون ألف علم ؛ على عدد كلم القرآن ، مضروبة في أربعة ، إذ لكل كلمة ظهر وبطن ، وحدّ ومطلع ، وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينها من روابط ، وهذا ما لا يُحصى ، ولا يعلمه إلا الله. قال: وأما علوم القرآن فثلاثة: توحيد ، وتذكير ، وأحكام ؛ فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات ، ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله ، والتذكير منه الوعد والوعيد ، والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن. والأحكام ؛ منها التكاليف كلها وتبيين المنافع والمضارّ ، والأمر والنهي والندب ، ولذلك كانت الفاتحة أمُّ القرآن ، لأن فيها الأقسام الثلاثة ، وسورة الإخلاص ثلثه لاشتمالها على أحد الأقسام الثلاثة ، وهو التوحيد.
وقال ابن جرير: القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء: التوحيد والإخبار ، والديانات ، ولهذا كانت سورة الإخلاص ثلثه ، لأنها تشمل التوحيد كله.
وقال علي بن عيسى: القرآن يشتمل على ثلاثين شيئا: الإعلام ، والتشبيه ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ووصف الجنة والنار ، وتعليم الإقراء باسم الله ، وبصفاته وأفعاله ، وتعليم الاعتراف بأنعامه ، والاحتجاج على المخالفين ، والرد على الملحدين ، والبيان عن الرغبة والرهبة ، والخير والشر ، والحسن والقبيح ، ونعت الحكمة ، وفصل المعرفة ، ومدح الأبرار ، وذم الفجار ، والتسليم ، والتحسين ، والتوكيد ، والتقريع ، والبيان عن ذم الأخلاق ، وشرف الآداب.
وقال شيذَلة: وعلى التحقيق أن تلك الثلاثة التي قالها ابن جرير تشمل هذه كلها بل أضعافها ، فإن القرآن لا يستدرَك ، ولا تحصى عجائبه.
وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء ؛ أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها ، وفيه عجائب المخلوقات ، وملكوت السموات والأرض ، وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى ، وبدء الخلق ، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السالفة ، كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة ، وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ، ورفع إدريس ، وغرق قوم نوح ، وقصة عاد الأولى والثانية ، وثمود والناقة ، وقوم يونس ، وقوم شعيب الأولين والآخرين ، وقوم لوط ، وقوم تبع ، وأصحاب الرس ، وقصة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرته نمروذ ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة ، وبنائه البيت ، وقصة الذبيح ، وقصة يوسف وما أبسطها ، وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم ، وقتل القبطي ، ومسيره إلى مدين وتزوجه بنت شعيب ، وكلامه تعالى بجانب الطور ، ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه ، وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة ، وقصة القتيل وذبح البقرة ، وقصته مع الخضر ، وقصته في قتال الجبارين ، وقصة القوم الذين ساروا في سرَب من الأرض إلى الصين ، وقصة طالوت ، وداود مع جالوت وفتنته ، وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ ، وفتنته ، وقصة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم ، وقصة ذي القرنين ، ومسيره إلى مغرب الشمس ومطلعها ، وبنائه السدّ ، وقصة أيوب ، وذي الكفل ، وإلياس ، وقصة مريم وولادتها ، وعيسى وإرساله ورفعه ، وقصة زكريا وابنه يحيى ، وقصة أصحاب الكهف ، وقصة أصحاب الرقيم ، وقصة بخت نصر ، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة ، وقصة أصحاب الجنة ، وقصة مؤمن آل يس ، وقصة أصحاب الفيل.
وفيه من شأن النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم به ، وبشارة عيسى ، وبعثه وهجرته ، ومن غزواته: سرية ابن الحضرمي في البقرة ، وغزوة بدر في سورة الأنفال ، وأحد في آل عمران ، وبدر الصغرى فيها ، والخندق في الأحزاب ، والحديبية في الفتح ، والنضير في الحشر ، وحنين وتبوك في براءة ، وحجة الوداع في المائدة ، ونكاحه زينب بنت جحش وتحريم سريته ، وتظاهر أزواجه عليه ، وقصة الإفك ، وقصة الإسراء ، وانشقاق القمر ، وسحر اليهود إياه.
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته ، وكيفية الموت ، وقبض الروح وما يُفعل بها بعد ، وصعودها إلى السماء ، وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة ، وعذاب القبر والسؤال فيه ، ومقر الأرواح ، وأشراط الساعة الكبرى ، وهي نزول عيسى ، وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج ، والدابة ، والدخان ، ورفع القرآن ، والخسف ، وطلوع الشمس من مغربها ، وغلق باب التوبة ، وأحوال البعث من النفخات الثلاث: نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام. والحشر والنشر ، وأهوال الموقف ، وشدة حر الشمس ، وظل العرش ، والميزان ، والحوض ، والصراط ، والحساب لقوم ونجاة آخرين منه ، وشهادة الأعضاء ، وإتيان الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر ، والشفاعة ، والمقام المحمود ، والجنة وأبوابها وما فيها من الأنهار ، والأشجار والثمار والحلي والأواني والدرجات ورؤيته تعالى. والنار وأبوابها وما فيها من الأودية ، وأنواع العقاب وألوان العذاب ، والزقوم والحميم.
وفيه جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث ، ومن أسمائه مطلقا ألف اسم ، ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم جملة.
وفي شعب الإيمان البضع والسبعون ، وشرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر.
وفيه أنواع الكبائر ، وكثير من الصغائر. وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات.
وقد أفرد الناس كتبا فيما تضمنه القرآن من الأحكام كالقاضي إسماعيل وبكر بن العلاء ، وأبي بكر الرازي والكيا الهراسي ، وأبي بكر بن العربي ، وعبد المنعم ابن الفرس ، وابن خويز منداد. وأفرد آخرون كتبا فيما تضمنه من علم الباطن ، وأفرد ابن برجان كتابا فيما تضمنه من معاضدة الأحاديث. وقد ألفت كتابا سميته: ( الإكليل في استنباط التنزيل ) ذكرت فيه كل ما استُنبط منه من مسألة فقهية أو أصلية ، أو اعتقادية ، وبعضا مما سوى ذلك ، كثير الفائدة جم العائدة ، يجري مجرى الشرح لما أجملته في هذا النوع ؛ فليراجعه من أراد الوقوف عليه.





المصدر كتاب : الإتقان في علوم القرآن – الجزء الرابع / للحافظ جلال الدين السيوطي .