شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : أثر الكعبة في ازدهار حضارة قريش .. تاريخ الكعبة


ثروت كتبي
06-09-2011, 11:59 PM
أثر الكعبة في ازدهار حضارة قريش .. تاريخ الكعبة

تطور قريش :
نشأ اسماعيل عليه السلام في قبيلة جرهم اليمنية بمكة بعد ان قدم ابوه إبراهيم به وظلت زعامة مكة وولاية الكعبة في جرهم حتى طغوا وتجبروا وأساءوا معاملة الحجاج واستولوا على أموال الكعبة وقدمت قبيلة خزاعة من اليمن فأجلت جرهم وانتزعت منها السيادة . واستمرت تتولى شؤون الكعبة أكثر من ثلثمائة سنة احدثوا فيها كثيراً من الاوهام الفاسدة ولا سيما عبادة الاوثان حتى برزت قبيلة قريش واستطاعت ان تجمع شملها وانتزعت السيادة من خزاعة واصبح زعيم قريش قصي بن كلاب زعيماً لمكة ايضاً .

تنازع ابناء عبد الدار وعبد مناف ابنا قصي حول السيادة في مكة مما أدى الى انقسام قريش ثم اتفقوا على ان تكون لبني عبد مناف السقاية والرفادة وتكون الحجابة واللواء ودار الندوة لبني عبد الدار .

كان هاشم بن عبد مناف موسراً تولى الرفادة والسقاية وكان يأخذ من القرشيين بعض مالهم كل سنة لتوفير الطعام والماء للحجاج . وهو أول من سن رحلتي الشتاء والصيف . وتولى المطلب بعد اخيه هاشم السقاية والرفادة ثم عهد بهما الى اخيه عبد المطلب .

وفي عهد عبد المطلب حدث الشقاق بين بني هاشم وبني امية ، ذلك الشقاق الذي استمر طوال العصر الأموي فقد دب النفور بين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن امية . شعر حرب بالغيرة الشديدة من عبد المطلب واستحكم العداء بيهما مما هدد بانقسام قريش . ورأوا ان يلجأ الطرفان المتنازعان الى التحكيم جرياً على عادة العرب حينئذ . واحتكما الى نفيل بن عبد العزى فحكم لعبد المطلب بل توجه باللوم الى حرب فقال له : يا أبا عمرو اتنافر رجلا هو أطول منك قامة ، واعظم منك هامة وأوسم منك وسامة واقل منك لامة ، وأكثر منك ولداً وأجزل منك صفداً وأطول منك مزوداً .

كانت حكومة مكة من النوع الذي يسميه علماء الاجتماع "الباترياركا" أي تتبع نظام الأبوة او سيادة الرجل . فكان لمكة او لقريش زعيم بارز يخضع له الجميع .

لم تعرف القبائل العربية في بلاد العرب الرئاسة المطلقة كما عرفتها قريش ، وانما كان في كل قبيلة نفر من السادة يعترفا فارد القبيلة لهم بسلطان ادبي وكان أعظم اولئك السادة عادة يعتبر سيد القوم وواجباته كثيرة ، ولكنها ليست محددة واذا قامت الحرب اصبحت سيادته رياسة فعلية . هذا بالنسبة للقبائل الظاعنة ، اما في مكة فقد اخذت السيادة معنى حقيقياً بسبب الاستقرار وانتظام امور الجماعة ووجود الكعبة وضرورة وجود من يتولى شؤونها . ومن هنا كان تنافس القبائل وشيوخها على سدانة الكعبة حتى انتهت الى قريش على يد سيدها قصي بن كلاب ثم حفيده عبد المطلب .

اصبحت لقريش في عهد عبد المطلب صيغة دولية . فقد كانت تربطها معاهدات سياسية واقتصادية بالدول الكبرى في العالم القديم ، وكان توقيع هذه الدول لهذه المعاهدات هو بمثابة اعتراف الدول بقريش كوحدة سياسية لها كيانها وقوامها واقتصادها .

فقد عقد هاشم مع الامبراطورية الرومانية ومع امير غسان معاهدة حسن جوار ومودة وتعهد الامبراطور بالسماح لتجار قريش بالترحال في أراضي الامبراطورية في سلام ، وقعد عبد شمس معاهدة تجارية مع نجاشي الحبشة . وعقد نوفل والمطلب معاهدة سياسية مع الدولة الفارسية ومعاهدة تجارية مع الدول الحميرية العربية في بلاد اليمن . ورأى العرب ان هاشماً وعبد شمس ونوفل والمطلب قد "جبر الله بهم قريشاً فسموا المجبرين" .

ثروت كتبي
06-10-2011, 12:00 AM
مناصب قريش :
كانت المناصب في قبيلة قريش خمسة عشر منصباً وزعها القرشيون فيما بينهم بالعدل والقسطاس ليرضوا كل بطون قريش وحتى لا يدب التنافس والتنافر بينها .

أما هذه المناصب فهي السدانة او الحجابة أي الاشراف على الكعبة ، السقاية أي توفير الماي للحجاج ، الرفادة أي توفير الطعام للحجاج ، الراية ويحملها احدهم ، القيادة أي امارة الركب في القتال او التجارة ، الاشناف أي الاشراف على الديات ، القبة أي الاشراف على المهمات الحربية ، الاعنة أي تولي شؤون الخيل وقت الحرب ، الندوة وهي دار الشورى يجتمع فيها كبار رجالات قريش ممن تجاوز عمرهم الاربعين للتشاور في مهام الامور ، المشورة وصاحبها يستشار في الأمور الهامة ، الصافرة ، الاسيار وهي الازلام التي يستخيرونها ، الحكومة أي الفصل بين الناس اذا اختلفوا ، الاموال المحجرة وهي اموال كانوا يسمونها لآلهتهم ، العمارة أي منع الكلام بصوت عال في الكعبة .

تولى هذه المناصب افذاذ من بطون قريش أي ان قريشاً كونت جمهورية صغيرة تولاها اكفأ ابنائها ، وكانت قريش تشجع العرب على الحج الى الكعبة ولذا عملت على انصاف المظلوم ونشر العدل ، كما وفرت الماء والطعام للحجاج .

كانت السقاية والرفادة من ابرز المناصب ، اما السقاية فتعني سقاية زمزم فكان على عبد المطلب توفير الماء للحجاج ومزجه بعسل او تمر . اما الرفادة فهي توفير الطعام للحجاج ، وكانت قريش تتعاون في سبيل ذلك . وقد تولى عبد المطلب السقاية والرفادة باعتباره من بني مناف بينما تولى ابناء عمومته بنوو عبد الدار الحجابة واللواء ودار الندوة ، كما قضى بذلك المحكمون حينما ثار النزاع بين الفريقين على النحو الذي ذكرناه .

وان كان بنو عبد الدار قد تولوا امر دار الندوة من الناحية الرسمية ، الا ان عبد المطلب كان زعيمها الروحي باعتباره زعيم قريش ومكة . وكانت هذه الدار هي دار حكومة مكة وتقع في جنوب غربي الكعبة بناها قصي سنة 440م وكان وجوه قريش وفي مقدمتهم عبد المطلب يجتمعون في دار الندوة للتباحث فيما يهمهم من شؤون . وكان اخطر اجتماع في عهد عبد المطلب هو اجتماع القرشيين حين قدم ابرهة على رأس جيش الاحباش لغزو مكة وهدم الكعبة . وكانت هذه الدار مكان انطلاق قوافل قريش للتجارة وعندها تنتهي . واذا بلغ غلام لقريش عذر "أي ختن" فيها . واذا بلغت جارية لقريش جاء بها اهلها الى دار الندوة فشق عليها قيم الدار درعها "أي قميصها" ثم يبدأ اهلها في حجابها . وكان الزواج مسألة قبلية فكان القرشيون يتشاورون في تزويج بناتهم وتقرير مدى كفاءة الزواج وكانت هذه الدار هي التي اجتمع الوثنيون فيها لتدبير مؤامرة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته إلى يثرب .

ثروت كتبي
06-10-2011, 12:01 AM
زعماء قريش للقبائل العربية :
كانت السياسة الحكيمة التي اتبعها زعماء قريش عاملا هاماً على ارتفاع شأن قريش في مكة ثم في بلاد الحجاز جميعها ثم في الجزيرة العربية ، بل سائر ارجاء العالم القديم . فقد كانت المعاهدات التي عقدها بنو هاشم مع الدول المعاصرة لهم بمثابة اعتراف بقريش كدولة وهي وان كانت تختلف عن غيرها من الدول الا انها الصورة التي تناسب ظروف مكة وبلاد الحجاز .

وأدى اخفاق غزو الاحباش لمكة في عهد عبد المطلب الى ارتفاع ذكر قريش في ارجاء الجزيرة العربية فقد ادرك العرب ان العناية الالهية ترعى قريشاً وتصد عنها اعداءها .

اعتاد المؤرخون ان ينظروا الى المجتمع العربي فيالجاهلية نظرة تقوم على وحدة القبائئل وتفردها فذهبوا الى ان القبائل وهي مجموعة عصبيات متناحرة كأن كل قبيلة امة مستقلة . والحقيقة ان المجتمع العربي الجاهلي لم يكن على هذه الصورة من الجمود والتشتت ولم تعش القبائل في هذا التحاجز والتباعد بل كانت هناك حركة متحركة تقارب بين القبائل وتصل بينها بالنسب وتصل بينها بالحلف ، وكانت هناك حركة تشيطة بين القبائل في داخل الجزيرة العربية .

اسست قريش حكومة جمهورية من نوع الحكومات التي كانت في بلاد العرب واتخذوا جزءاً من الأرض المجاورة للكعبة اولوه احترامهم واعتبروه مقدساً وحرموا فيه القتال . وكان لمكة مركز خاص لوجود الكعبة بها كما اصبحت قريش محترمة في نظر القبائل العربية .

عدد الجاحظ ما تميزت به قريش على سائر القبائل العربية فتحدث عن كرمها ، وسخائها وتفوقها العقلي ونضوج افكارها وحسن تدبيرها وسماحة اخلاقها ووصف الجاحظ كيف وصلت قريش قديمها بحديثها .

ولما كانت قريش قبيلة تجارية فقد رأت من حسن السياسة ان توفر السلام في مكة وتحفظ التوازن بين القبائل حتى تضمن الامن لقوافلها وساعدها على تنفيذ سياستها موقع مكة الجغرافي فقد كانت مكة تقع في منتصف الطريق وكانت القوافل تستقي من زمزم وتأخذ حاجته من الماء ولان قريشاً أهل الكعبة التي يدين العرب بعظمتها ويكنون لها الاحترام .

قال الزمخشري في الكشاف : " كانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء الى اليمن وفي الصيف الى الشام فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتهم آمنين لانهم اهل حرم الله وولاة بيته فلا يتعرض لهم ، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم . قال تعالى في سورة القصص آية [57] {...أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .

اعتبرت قريش الارض المحيطة بالكعبة مكاناً مقدساً وتجعله حرماً لا يحل فيه القتال واخذوا على عاتقهم حمايته فاطمأنوا عندئذ الى انهم في أمن وسلام من اعتداء القبائل عليهم ونشوب المعارك في جوارهم وقد زاد في مجد قريش انها في مكة وان الكعبة في مكة .

ثروت كتبي
06-10-2011, 12:02 AM
أثر الكعبة في ازدهار تجارة قريش :
استن هاشم بن عبد مناف رحلة الشتاء الى اليمن ورحلة الصيف الى بلاد الشام وبرزت في عهد ابنه عبد المطلب اهمية هذه الرحلات واثرها في حياة قريش ومكة ، بل في حياة الجزيرة العربية كلها . وفي عهد عبد المطلب وصلت تجارة قريش الى ذروتها فقد بدأ القرشيون يجنون ثمار المعاهدات التجارية واتفاقات حسن الجوار التي عقدها هاشم واخوته مع دول الفرس والروم والاحباش والغساسنة والحميريين باليمن . واصبحت تجارة قريش تعرف طريقها الى كل مكان في العالم القديم وعمل القرشيون كتجار او كوسطاء تجاريين او كناقلين للتجارة . وازداد ثراء قريش في عصر عبد المطلب زيادة كبيرة ، وأدى هذا الثراء الى انتشار الحضارة في قريش والى انتشار الرخاء في مكة .

أشار القرآن الكريم في سورة قريش الى رحلات قريش في سورة كاملة من اربع آيات قال تعالى : {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ 1 إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ 2 فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ 3 الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ 4} .

والايلاف شيء كان يحمله هاشم لرؤساء القبائل من الربح . ويجعل لهم متاعاً مع متاعه ويسوق اليهم ابلا مع ابله ليكفيهم مؤنة الاسفار ويكفي قريشاً مؤنة الاعداء فكان المقيم رابحاً والمسافر محظوظاً .

وهاشم هو الذي تنسب اليه "غزوة هاشم" في بلاد الشام . فقد كان يفضل دائماً الرحيل اليها للتجارة ، وحذا ابناؤه حذوه بعده . فكان هاشم يؤلف الى الشام وعبد شمس الى الحبشة ، والمطلب الى اليمن ونوفل الى فارس ، يؤلفون الجوار بعضهم بعضاً ويجيرون قريشاً بميرهم وكانوا يسمون المجيرين .

وكانت تجارة قريش قبل هؤلاء العظماء لا تعدو مكة انما يقدم التجار الاجانب الى مكة بالسلع المختلفة فيشتري القرشيون منهم سلعهم ويتبايعون فيما بينهم اوو يبيعونها لمن حولهم من العرب .

أدى نشاط هؤلاء الزعماء الاربعة من قريش الى نمو ثروة قبيلتهم واستاع تجارتها فسماهم قومهم "المجيرين" واطلق عليهم سائر العرب اسم "اقداح النضار" لطيب احسابهم وكرم فعالهم . فقد فتح هؤلاء القرشيون امام قومهم ابواب التجارة مع الدولة الرومانية وبلاد الحبشة ومصر والدولة الفارسية وكانت قريش قد زهدت منذ زمن طويل فيما كانت تعتمد عليه القبائل الاخرى من غارات وغصوب واصبحت تعتمد في مواردها على التجارة وعملت التجارة على اختلاطهم بالشعوب المجاورة .

كانت الجزيرة العربية منذ اقدم العصور طريقاً عظيماً للتجارة فطوراً ينقل العرب غلات جزيرتهم العربية ، وخاصة بخور اليمن الى ممالك اخرى كالشام ومصر حيث تحتاج المعابد الى هذا البخور . وطوراً ينقل العرب غلات بعض الممالك الى البعض الآخر . وذلك لأن البحر لم يكن طريقاً آمناً ، فالتجأ الى الطرق البرية . وكان في الجزيرة العربية طريقان للتجارة بين الشام والمحيط الهندي احدهما من حضرموت الى البحرين والآخر يحاذي البحر الأحمر وتقع مكة في منتصف هذا الطريق .

واستفاد العرب جميعاً من هذه التجارة . فمنهم منكان يسكن المدن الواقعة على الطريق ويتاجر لنفسه ، ومنهم من كان يستخدم في التجارة سائقاً او حارساً او دليلاً . وبرغم حب العربي للغزو والغارات الا ان حبه للوفاء وشعوره بالشرف وتقديره للوعد الذي يصدر منه جعله ينجح في الاشتغال بالتجارة .

كان اليمنيون يسيطرون على التجارة في بداية الأمر ولكن بعد انهيار سد مأرب وانحطاط الحضارة اليمنية حل محلهم منذ القرن السادس الميلادي على ناصية التجارة عرب الحجاز وخاصة القرشيون .

ففي عصر عبد المطلب نجح الاحباش في القضاء على الدولة الحميرية في بلاد اليمن وبدأت فترة الاستعمار الحبشي لبلاد اليمن . واستفاد القرشيون من انهيار هذه الدولة اليمنية فقد حلوا مكانهم في ميدان التجارة .

كان القرشيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين ثم يبيعونها لحسابهم في اسواق فارس ، لان التجارة مع الفرس كانت في يد عرب امارة الحيرة . وجعل عرب الحجاز مكة قاعدة لتجارتهم ووضعوا الطريق تحت حمايتهم ، ووصل القرشيون قبيل الاسلام في عهد عبد المطلب عندما كان العداء بين الفرس والروم بالغاً منتهاه ، الى درجة عظيمة من التجارة وعلى تجارة مكة كان يعتمد الروم في استيراد ادوات الترف وخاصة الحرير .

ويذكر المؤرخ "اوليري" في كتابه "الجزيرة العربية قبل محمد" انه كان للرومان بيوت تجارية في مكة وكانت تقوم بعملين العمل التجاري العادي ، والتجسس على احوال العرب . كما كان في مكة احباش يتولون شئون تجارة بلدهم .

كان الجمل سفينة الصحراء ، وكانت القافلة اسطولها ويمكن ان تسمى البدو الذين يقودون قوافل قريش ملاحي الصحراء ، فقد جابوا الصحراء بإبلهم وقطعانهم وقوافلهم وتبين لنا الكتابات القديمة اهمية التجارة بني الاقطار الواقعة بين الحجاز وجنوب بلاد العرب والهند والحبشة واليمن وبين بلاد الشام .

بلغت ثروة قريش ذروتها وقد مارس القرشيون جميع اعمال التجارة فقد مارسوا ما يشبه اعمال المصارف المالية . وكانوا يفضلون ان يستثمروا اموالهم في تجارة الابل والاغنام والاقمشة والمعادن والجلود والعطور والاصباغ والجواهر والاصواف والحرائر والحلى والاثواب المنسوجة في مدينة "تانيس" والبصر ودمشق والمصوغات المجلوبة من منف وهرموبوليس والعاج وريش النعام من الحبشة والسودان والاخشاب من صور وصيدا ولبنان والقراطيس من الشام ونابوليس .

كانت بلاد العرب وعرة الا على القرشيين لعلمهم بالصحراء وسبلها ومواضع الأمن والخوف فيها ، وقدرتهم على تحمل القيظ وعناء السير ، ولم يكن لاهل الشام والحبشة وغيرهما سبيل للسير في هذه الفيافي والقفار الكثيرة الوعورة والاخطار . فاحتكر القرشيون تجارة بلاد العرب السعيدة أي اليمن والشام وغيرهما . وكان من اثر احتكارهم تلك التجارة وانتشارها في مكة ان حاز أهلها ثروات ضخمة .

ولم يكن حب أبناء الأشراف والنبلاء وأهل الشرف في قريش للفروسية بأقل من حبهم للتجارة التي كانوا يمارسونها منذ نعومة أظفارهم . أضف إلى ذلك ازدياد عددهم على الأيام لجودة غذائهم بالنسبة لغيرهم من القبائل وعدم تعرضهم للمنازعات والحروب التي انهكت قوى العرب في جاهليتهم . كما ساعدتهم ثروتهم على قرى الضيف فلهجت بمجامدهم ألسنة الشعراء والوافدين على مكة من كافة أرجاء بلاد العرب .

بعد ناة مكة من الغزو الحبشي في عهد عبد المطلب عظمت مكانة مكة الدينية ، كما عظمت مكانة قريش التجارية . وأصبح القرشيون لا يفكرون شيء غير الاحتفاظ بتلك المكانة الرفيعة الممتازة ومحاربة كل من يحاول الانتقاص منها أو الاعتداء عليها ، وزاد المكيين حرصاً على مكانة مدينتهم ما كانت تتيحه لهم من رخاء وترف على أوسع صورة يستطيع الذهن تصورها للترف في هذه الجهة الصحراوية الجرداء .

ازدهرت التجارة في مكة وصاحب هذه التجارة أعظم مظاهر العمرة والحج بهجة ، وهو انعقاد الأسواق السنوية العامرة في مكة في موسم الحج وكانت الحياة العربية تصل فيها إلى أوج نشاطها وعظمتها .

كان الاشتغال بالتجارة يحتاج إلى الالمام بالأحوال السياسية والتجارية في العالم القديم ، ولذا اهتم القرشيون بدراسة العلاقات القائمة وقتذاك بين الفرس والروم والأحباش واليمنيين والمشاكل التي تشوف هذه العلاقات .

وأصبحت تجارة قريش مدرسة أو جامعة عملت على تكوين أفراد ذوي خبرة وتجارب وعلم يصعب على المدارس أو الجامعات العادية تخريجهم فيها .

وكانت التجارة تقتضي الالمام بجوانب الحساب التجاري وكل ما يرتبط بالتجارة من الدراية بالمكاييل والموازين والمقاييس العالمية وما يتعلق بالنقد الأجنبي ، والعملات الدولية والعقود والصكوك ، وغير ذلك من الأساليب التجارية ومستلزماتها الضرورية .

كما أصبحت جدة التي كانت تبعد عن مكة بنحو أربعين ميلاً ميناء قريش وامتلك القرشيون عدداً كبيراً من السفن كانوا يعبرون بها البحر الأحمر إلى الحبشة برغم خطورة الملاحة في هذا البحر وقتذاك حيث كانت السفن لا تزال بدائية الصناعة .

وأصبح القرشيون وسطاء تجاريين بين إقليم البحر المتوسط المعروف بغلاته المتميزة المتوافرة في الشام وفلسطين وآسيا الصغرى وبين ذلك الإقليم الموسمي في جنوب الجزيرة العربية التي تشتهر بغلات كان العالم القديم يحتاج إليها مثل التوابل والبخور .

استفاد القرشيون فوق تجارتهم المادية اقتباسهم ألواناً عديدة من الحضارتين الرومانية والفارسية . فقد كان التجار القرشيون يطلعون على معالم هاتين الحضارتين حينما يقصدون مدن الدولتين الرومانية والفارسية ويختلطون بأهلها . وقد نقلوا إلى اللغة العربية كثيراً من المصطلحات والكلمات الرومانية والفارسية . وأدى إطلاع القرشيين على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في دولتي الفرس والروم إلى نمو ثقافتهم وزيادة معلوماتهم ورقي أفكارهم . فكان معظم القرشيين يلمون بالقراءة والكتابة والحساب ، مما أتاح الفرصة لظهور شخصيات مستنيرة استطاعت أن تتولى أمور الدولة العربية الإسلامية التي بزغت بظهور الإسلام .

ثروت كتبي
06-10-2011, 12:03 AM
حضارة قريش :
بلغت قريش في عهد عبد المطلب شأواً بعيداً في الحضارة لم تبلغه في أي عهد من عهودها قبل الإسلام . وإن كان قصي بن كلاب قد وضع بذور هذه الحضارة فقد جنى حفيده عبد المطلب الثمار . ولذا لا عجب أن ارتفع شأنه وعظم أمره .
أصبحت الجزيرة العربية بسبب وجود مكة المدينة المقدسة مركز الحياة التجارية ، ولذا أثرت وأثرى أهلها وادخروا الأموال والمعادن النفيسة وعرفوا ألواناً من الترف وتقلبوا في ألوان النعمة والرفاهية .

وقد روى الوافدي أن العرب استخرجوا الذهب من مناجم سليم وجلبوه إلى مكة حيث صنعوا منه أنواعاً عديدة من الحلي وادخروه سبائك ذهبية . وظهر من بين أهل مكة رجال حازوا ثروات كبيرة نتيجة اشتغالهم بالتجارة .

وكانت المنازل في مكة تقدر بالذهب وتراوح ثمن الدار بين مائتين وخمسمائة دينا . وامتلك المكيون الجياد الكريمة وتفاخروا بعددها ونسبها . واشتهر المكيون بالكرم والشهامة والمروءة وإكرام الضيوف ، وبدا هذا الكرم واضحاً زمن الحج فقد حرصوا على توفير وسائل الراحة للحجاج .

لم تقم في عهد عبد المطلب حروب قبلية مثل التي كانت تحدث بين حين وحين في عصور الجاهلية ، تلك الحروب التي كانت تثير النفور بين القبائل وتسفك الدماء وتشل نشاط العرب الاقتصادي وتتهدد طرق القوافل . وحرص عبد المطلب على حل جميع المشاكل بالطرق السلمية . فقد كانت تلك الحروب القبلية تهدد قوافل قريش وخاصة قوافل رحلتي الشتاء والصيف ، وهي تمثل أبرز موارد قريش ز وكان عبد المطلب يلجأ إلى التحكيم كلما بزغ نزاع بين القبائل . فقد آثر اللجوء إلى التحكيم حين شب العداء بينه وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس وحين كشف عبد المطلب عن بئر زمزم وجد كثيراً من الحلي والنفائس الذهبية ونازعته قريش فيما وجد وقام نزاع عنيف واختار عبد المطلب طريق التحكيم لأنه طريق السلام . وحين قدم أبرهة على رأس جيش حبشي لغزو مكة وهدم الكعبة لجأ عبد المطلب إلى طريق المفاوضات فقد تكون أجدى من السيف والحرب . لذا كان عبد المطلب بحق رجل سلام يعمل على أن ترفرف راية الأمن والطمأنينة على مكة وبلاد العرب .

مالت قريش في حياتهم السياسية إلى الديمقراطية وكانت دار الندوة تشبه البرلمانات المعاصرة فلم يكن أحد من زعماء قريش ليستبد برأيه أو ينفذ أمره إلا بعد أن يعرض مهام الأمور على وجوه قريش في دار الندوة ، بل كان هؤلاء الوجوه يتدخلون في زواج ، فتيات قريش ، فقد كان الزواج مسألة تهم القبيلة كلها وليست مسألة شخصية أو فردية ، فقد كانت العرب تفخر بالأنساب ونقاء الدماء ز وإذا قارنا ديموقراطية قريش بارستقراطية الأمم العظمى المعاصرة للجاهلية وخاصة الفرس والرومان لادركنا سبق العرب في هذا المجال .
كانت مكة مركز الحياة التجارية والأدبية ببلاد الحجاز فكان يقدم إليها العرب من كل مكان زمن الحج والمواسم العربية فيتناقلون الآداب الاجتماعية بعضهم من بعض ويتناشدون الأشعار الحماسية ويتحدثون بشرف أصلهم وكرم مجدهم فتغرس كل هذه المظاهر الاجتماعية والأدبية في نفوس أطفالهم المواهب النادرة والقرائح الوقادة والخصال الكريمة وتدفع بهم إلى جليل الأعمال وأسمى الغايات .

لم يكن معظم العرب يهتمون بتعليم أطفالهم القراءة والكتابة ، فلم يكن التعليم منشراً في الجزيرة العربية في ذلك الحين ، كما كان العرب قد انشغلوا بالبحث عن موارد الحياة والسعي وراء الرزق عن التعليم ، فقد كانت طبيعة بلاد العرب قاسية لا تجود بالخير العميم . ولكن الله عز وجل قد عوضهم عن ذلك بذاكرة قوية ، وسعة أفق ، وصبر وقوة احتمال ، وخيال فياض .
ولكن قبيلة قريش كانت أكثر هذه القبائل اهتماماً بالتعليم ، نتيجة الحضارة التي وصلت إليها ، ونمو ثرائها ، واحتكاكها بالدول الكبرى المتحضرة إلى جانب حاجة القرشيين إلى التعليم ليقوموا بواجبهم التجاري . وقد كان عبد المطلب ، مثله في ذلك مثل معظم القرشيين ، يجيد القراءة والكتابة والحساب .

وصف الألوسي في كتابة (بلوغ الأرب) العرب فقال عنهم : "والحاصل أن العرب لما كانوا أتمم الناس عقولا وأحلاماً وأطلقهم وأوفرهم أفهاماً استتبع ذلك لهم كل فضيلة وأورثهم كل منقبة جليلة ، وتحدث ابن رشيق في كتابه (العمدة) عن العرب فقال عنهم : "العرب أفضل الأمم ، وحكمتها أشرف الحكم" .

مهرت قريش في عدة علوم ، فإلى جانب العلوم التجارية التي تعلموها بالتجربة والخبرة والمران حتى حذقوها ، مهروا في علم الأنواء فعلموا مواعيد نزول الأمطار وهبوب العواصف والرياح ، كما أجاد واعلم الاثر ، وتتبعوا آثار الأقدام في الصحراء ، وكانت تدلهم أحياناً على مسالك الصحراء ودروبها .

كما برعوا في علم الأنساب ، وقد كانت قريش تدرك منزلتها بين القبائل العربية ، ولذل حفظوا أنسابهم واهتموا بتسلسلها وبرز من القرشيين نسابون ذاع صيتهم بين العرب .

وعدد الجاحظ صفات العرب وعدد العلوم التي اشتغلوا بها فقال : أذهان حداد ونفوس مفكرة ، فحين جلوا حدهم ، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق ، وتصاريف الكلام ، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر ، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم ، والاستدلال بالآثار وتعرف الأنواء ، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب والحفظ لكل مسموع ، والاعتبار بكل محسوس وأحكام المناقب والمثالب ، بلغوا في ذلك الغاية وحازوا كل أمنية ن وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر ، وهمهم أرفع ، وهم من جميع الأمم أفخر ن ولأيامهم أذكر .

ولم يحل عدم انتشار التعليم في بلاد العرب دون قيام نهضة أدبية في هذا العصر الذي ندرسه . وليس أدل على تلك النهضة من ازدهار الشعر الذي يكون صورة صادقة للخلق القومي ، والذي يختلف تماماً عن الشعر في الشعوب السامية الشمالية في مادته وتركيبه . وتناول الشعر العربي القديم حياة العرب بجميع جوانبها ، وطالما تغنى الشعر العربي بذكر تلك الحياة وامتدحها وصبغها بجم الألوان من الأخيلة الشعرية ، كما لم ينس هذا الشعر نصيبه من الحكم الرائعة والأفكار القيمة . ولم تكن القافية خاصة بالشعر ، فقد تقفى العبارات التي لها علاقة ما بالأمور الدينية والأحاديث ذات الخطر ، والتي ليست خاضعة لقواعد الشعر الضيقة ، مثل تنبؤات بعض المتنبئين وحكم الحكماء .

ارتفع شأن قريش في أرجاء الجزيرة العربية والدول المعاصرة ، ونظر الجميع إليها بعين الحرمة والإجلال ، لشرف المتحد ، وسمو الفكر ، ولأنهم حماة الكعبة وسدنتها وعظم أمرها بعد إخفاق أبرهة الحبشي في غزو مكة وهدم الكعبة ، فارتفع شأن عبد المطلب وقبيلة قريش .
وقد ظهرت قريش بمظهر الحذق والفطنة في التجارة ، والميل إلى السلم من أجل اشتغالهم بالتجارة ، فخلصوا بالتدريج من شوائب البداوة ، وكفوا عن الرحيل لرغي الإبل وتربية الأنعام ، واستقروا وثبتوا ونظموا أسفارهم ، في قوافل رتيبة على ظهور الإبل لجلب الخير إلى وطنهم .

أصبحت قريش رمزاً للسلام في الجزيرة العربية ، والداعية إليه ، فقد أدركوا أهمية تحقيق السلام لهم ، وما يعود به عليهم من فوائد اقتصادية ومكاسب مادية .

ونعمت قريش بالهدوء العائلي ، فقد فطنوا إلى متعة السفر في سبيل الكسب ولذة الحنين إلى الوطن وهم بعداء ، وفرحة العودة إلى الدار ولقاء الأسرة والأصحاب والتردد على مجالس السمر بعد طول الاغتراب . ورغبت قريش عن الغزو واثارة الأحقاد بينهم وبين جيرانهم ، بل اتخذوا من هؤلاء الجيران أحلافاً وأعواناً وأضيافاً يرحلون إلى بلادهم في أعمالهم فيصلون إلى الشام وإلى اليمن جنوباً ، وإلى نجد وتهامة ونجران .

نسب المؤرخ الألماني "فلهوزن" ارتقاء مكة والحجاز إلى تفوق سكان مكة من قريش ، ذلك أن نهضة أهل مكة الثقافية تأثرت بالعلاقات الطيبة مع الساميين الشماليين فالمقطوع بأن التجارة التي امتدت إلى سوريا والحيرة وجنوب بلاد العرب قد حملت إليهم مؤثرات ومطامع جديدة ، ولذا كان من بين الرجال الذين عرفوا القراءة والكتابة قبل الإسلام عدد كبير نسبياً من أهل مكة .
ويرى (فلهاوزن) أن أهل مكة ، برغم افتقارهم إلى نظام حكومي تحلوا بروح التعاون ، ونظر ثاقب في الأمور التي تهم الصالح العام ، وذلك بصورة لا نجد لها مثيلاً في أي مكان آخر من بلاد العرب . فبالرغم من أن كل أسرة كانت في جوهرها حكومة قائمة بنفسها ، فإنها وضعت مصالح مكة أولاً وقبل كل شيء ، أي أنه قام هناك سلطان يدل على وجود نظام صالح لإدارة مكية ، وهذا النظام كان حدثاً هاماً في بلاد العرب برغم بساطته وضيق حدوده .

يتبع : اثر الكعبة في تطور مكة

المرجع
تاريخ الكعبة – د.علي حسني الخربوطلي – بتصرف