م.أديب الحبشي
01-30-2011, 10:38 AM
قصة سوق النورية في جدة
تولي قائم مقامية جدة "نورى أفندي" عام 1283هـ وإتسم بالشدة والحزم اللذين كانا مطلوبين لتنفيذ الإصلاحات فهابه الناس وحفظ النظام وحقق الانضباط في مختلف شئون المدينة الأمر الذي مكنه من تحقيق الكثير من الإصلاحات لمدينة جدة فقد نظم الأسواق وجعل الحوانيت صفاً واحداً متوازناً بعد أن كانت مبعثرة دون انتظام . وأزال المقاهي والمحلات التي كانت عششاً وخيش "جوت" واستبدلها بالصناديق الخشبية مع شغلها بالنقوش وتسقيف الأسواق للتظليل .
ومن أبرز إصلاحات نوري أفندي إنشائه "الكداوي" والكدوة هي منطقة متسعة نسبياً في قلب الحواري تلقى فيها القمامة ويتم إعدامها حرقاً كذلك أغلق جانباً من البحر جهة الجمرك لحفظ البضائع وردم أجزاء أخرى من البحر بما يشبه الأرصفة ووقوف السنابيك المحملة بالبضائع .
كما تمكن بحزمه من القضاء على المشاجرات العنيفة التي كانت تشب بين أبناء الحواري وتزهق فيها بعض الأرواح . .
ولعل من أبرز أعماله التي لا زالت مقترنة باسمه حتى اليوم هو بنائه سوقاً رئيسية للقصابين والخضرية عام 1284هـ بنموذج علمي وهندسي مميز واشتق هذا السوق اسمه من اسم نوري أفندي وعرفت به بالنورية بل أصبح الاسم حتى اليوم يطلق على كل سوق يختص في بيع اللحوم والخضار . . وكانت النورية تقع بحارة اليمن قرب مسجد المعمار وهي من أجمل المباني الأثرية كما كانت مسقفة ولها بابان حديديان ضخمان من الجهتين الشمالية والجنوبية . وقد أقيمت على أرقى ما يمكن أن يكون عليه مرفق كهذا في زمانه وكان يبلغ طولها حوالي (50م) وعوضها حوالي (10م) . .
ومن أشهر الجزارين في النورية كل من الشيخ محمد فرحات الذي تولى مشيخة الجزارين
والشيخ عوض عطيوي الذي تولى بدوره المشيخة كذلك محمد شلبي ، علي شلبي ، وإسماعيل جزار، عباس شربتلي ، إسماعيل نونو ، عبد الرحمن عياد ، صالح كببجي ، وعم حنفي ، وحمزة أبو الروس .
وكنا نذهب إلى النورية بشكل يومي لشراء اللحم والخضار لعدم وجود ثلاجات للحفظ – وأول ما جاءت الثلاجات على ما أذكر وارد بن زقر والبسام وكانت تشتغل بالغاز السائل حيث تتم تعبئتها في علبة ملحقة بها وكانت لها لمبة زرقاء اللون وحينما يبدأ لونها في الاحمرار تتم تعبئتها بالغاز كما يتم تسييخها يومياً للتخلص من الهباب بواسطة سيخ في رأسه فوشاة- . .
وتقترن النورية في ذاكرتي بسماحة أولئك البائعين وطيبة نفوسهم فكان الجزار يسأل زبونه عن نوع الوجبة التي يرغب أهل البيت في طبخها . . ومن ثم يعطيه اللحم المناسب سواءً من الرقبة أو الشواكل أو خلافه وفقاً لطبق اليوم . .
وأذكر أن "المجزرة" القديمة كانت تقع في موقع مدينة حجاج البحر حتى انتقلت في منتصف السبعينات من القرن الماضي (14هـ) وتنقلت بعدها لعدة مواقع أخرى .
أما الخضرية في النورية فكان أشهرهم بيت عبد وبيت أبو زيدان وقد تولت العائلتين مشيخة الخضرية . . كذلك تولي المشيخة علي بن عمر كدوان ومن أشهر الخضرية صالح وعبد الجليل أبو الجدايل وعبد الرحمن أبو الشامات . . وكان الخضري يمنحك لوازم السلطة مجاناً حينها نشتري منه الخضرة . . ومن الفكاهنية اللذين اشتهروا بشارع قابل ، إبراهيم أبو الشامات .
كذلك كان عند باب النورية بائعي الدجاج وهم حسين ومحمد متبولي وشخص يقال له الدخنه وهو من بيت سلطان . وكذا بعض بائعي ( الفول النابت ) وبعضهم من النساء .
سقى الله تلك الأيام وما أقسى ما فعله افتتاح شارع الذهب بجدة لقد مزقها شر ممزق وجرف معه الكثير من أعرق وأجمل آثار جدة التي لا تعوض . . والواقع أن جدة كانت في بداية عهدها بإنشاء الشوارع الحديثة لحل مشاكل المرور ومتطلبات التخطيط الحديث وكان الهم هو افتتاح شارع عصري حديث ومن حيث يدري أو لا يدري المنفذون وبالرغم من حسن النوايا فلم يكن بالإمكان إدراك الثمن الباهظ الذي تكبدته جدة من تراثها العريق .
في النهاية فبالرغم من الحركة التجارية الواسعة التي كانت تعايشها جدة إلا أنه حتى نهاية النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري كان الحصول على مجرد صفيحة غاز سائل أمراً عزيز المنال ، فهاهم علية القوم يتكاتبون ويوصون على جلب صفيحة غاز سائل لإضاءة مصابيحهم وإيقاد نار طهيهم وتشتد الحاجة لذلك خلال شهر رمضان المبارك بل لم يكن مجرد الحصول على حذاء "كندره" بالأمر الهين للمقتدرين فهي تجلب من مكان بعيد . . كل ذلك يعكس مدى افتقاد المجتمع آنذاك- لمقومات العصر . . وإن كان الجانب الآخر للصورة. يعكس أيضاً مدى تطلع وتشوق أبناء المجتمع بمحاولة الأخذ بسيل الحياة العصرية الحديثة وتوقهم لذلك .
المرجع
( كتاب جدة .. حكاية مدينة– لمحمد يوسف محمد حسن طرابلسي–الطبعة الأولى 1427هـ ، 2006م)
تولي قائم مقامية جدة "نورى أفندي" عام 1283هـ وإتسم بالشدة والحزم اللذين كانا مطلوبين لتنفيذ الإصلاحات فهابه الناس وحفظ النظام وحقق الانضباط في مختلف شئون المدينة الأمر الذي مكنه من تحقيق الكثير من الإصلاحات لمدينة جدة فقد نظم الأسواق وجعل الحوانيت صفاً واحداً متوازناً بعد أن كانت مبعثرة دون انتظام . وأزال المقاهي والمحلات التي كانت عششاً وخيش "جوت" واستبدلها بالصناديق الخشبية مع شغلها بالنقوش وتسقيف الأسواق للتظليل .
ومن أبرز إصلاحات نوري أفندي إنشائه "الكداوي" والكدوة هي منطقة متسعة نسبياً في قلب الحواري تلقى فيها القمامة ويتم إعدامها حرقاً كذلك أغلق جانباً من البحر جهة الجمرك لحفظ البضائع وردم أجزاء أخرى من البحر بما يشبه الأرصفة ووقوف السنابيك المحملة بالبضائع .
كما تمكن بحزمه من القضاء على المشاجرات العنيفة التي كانت تشب بين أبناء الحواري وتزهق فيها بعض الأرواح . .
ولعل من أبرز أعماله التي لا زالت مقترنة باسمه حتى اليوم هو بنائه سوقاً رئيسية للقصابين والخضرية عام 1284هـ بنموذج علمي وهندسي مميز واشتق هذا السوق اسمه من اسم نوري أفندي وعرفت به بالنورية بل أصبح الاسم حتى اليوم يطلق على كل سوق يختص في بيع اللحوم والخضار . . وكانت النورية تقع بحارة اليمن قرب مسجد المعمار وهي من أجمل المباني الأثرية كما كانت مسقفة ولها بابان حديديان ضخمان من الجهتين الشمالية والجنوبية . وقد أقيمت على أرقى ما يمكن أن يكون عليه مرفق كهذا في زمانه وكان يبلغ طولها حوالي (50م) وعوضها حوالي (10م) . .
ومن أشهر الجزارين في النورية كل من الشيخ محمد فرحات الذي تولى مشيخة الجزارين
والشيخ عوض عطيوي الذي تولى بدوره المشيخة كذلك محمد شلبي ، علي شلبي ، وإسماعيل جزار، عباس شربتلي ، إسماعيل نونو ، عبد الرحمن عياد ، صالح كببجي ، وعم حنفي ، وحمزة أبو الروس .
وكنا نذهب إلى النورية بشكل يومي لشراء اللحم والخضار لعدم وجود ثلاجات للحفظ – وأول ما جاءت الثلاجات على ما أذكر وارد بن زقر والبسام وكانت تشتغل بالغاز السائل حيث تتم تعبئتها في علبة ملحقة بها وكانت لها لمبة زرقاء اللون وحينما يبدأ لونها في الاحمرار تتم تعبئتها بالغاز كما يتم تسييخها يومياً للتخلص من الهباب بواسطة سيخ في رأسه فوشاة- . .
وتقترن النورية في ذاكرتي بسماحة أولئك البائعين وطيبة نفوسهم فكان الجزار يسأل زبونه عن نوع الوجبة التي يرغب أهل البيت في طبخها . . ومن ثم يعطيه اللحم المناسب سواءً من الرقبة أو الشواكل أو خلافه وفقاً لطبق اليوم . .
وأذكر أن "المجزرة" القديمة كانت تقع في موقع مدينة حجاج البحر حتى انتقلت في منتصف السبعينات من القرن الماضي (14هـ) وتنقلت بعدها لعدة مواقع أخرى .
أما الخضرية في النورية فكان أشهرهم بيت عبد وبيت أبو زيدان وقد تولت العائلتين مشيخة الخضرية . . كذلك تولي المشيخة علي بن عمر كدوان ومن أشهر الخضرية صالح وعبد الجليل أبو الجدايل وعبد الرحمن أبو الشامات . . وكان الخضري يمنحك لوازم السلطة مجاناً حينها نشتري منه الخضرة . . ومن الفكاهنية اللذين اشتهروا بشارع قابل ، إبراهيم أبو الشامات .
كذلك كان عند باب النورية بائعي الدجاج وهم حسين ومحمد متبولي وشخص يقال له الدخنه وهو من بيت سلطان . وكذا بعض بائعي ( الفول النابت ) وبعضهم من النساء .
سقى الله تلك الأيام وما أقسى ما فعله افتتاح شارع الذهب بجدة لقد مزقها شر ممزق وجرف معه الكثير من أعرق وأجمل آثار جدة التي لا تعوض . . والواقع أن جدة كانت في بداية عهدها بإنشاء الشوارع الحديثة لحل مشاكل المرور ومتطلبات التخطيط الحديث وكان الهم هو افتتاح شارع عصري حديث ومن حيث يدري أو لا يدري المنفذون وبالرغم من حسن النوايا فلم يكن بالإمكان إدراك الثمن الباهظ الذي تكبدته جدة من تراثها العريق .
في النهاية فبالرغم من الحركة التجارية الواسعة التي كانت تعايشها جدة إلا أنه حتى نهاية النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري كان الحصول على مجرد صفيحة غاز سائل أمراً عزيز المنال ، فهاهم علية القوم يتكاتبون ويوصون على جلب صفيحة غاز سائل لإضاءة مصابيحهم وإيقاد نار طهيهم وتشتد الحاجة لذلك خلال شهر رمضان المبارك بل لم يكن مجرد الحصول على حذاء "كندره" بالأمر الهين للمقتدرين فهي تجلب من مكان بعيد . . كل ذلك يعكس مدى افتقاد المجتمع آنذاك- لمقومات العصر . . وإن كان الجانب الآخر للصورة. يعكس أيضاً مدى تطلع وتشوق أبناء المجتمع بمحاولة الأخذ بسيل الحياة العصرية الحديثة وتوقهم لذلك .
المرجع
( كتاب جدة .. حكاية مدينة– لمحمد يوسف محمد حسن طرابلسي–الطبعة الأولى 1427هـ ، 2006م)