شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى


جمانة كتبي
04-12-2011, 12:22 AM
نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى





أ- أول من حث على التحول عن الكتابة باللغة العربية الفصحى إلى الكتابة بالعاميات الإقليمية داخل البلاد العربية ، المستشرق الألماني الدكتور "ولهلْم سبيتا" وقد كان مديراً لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، في كنف الاحتلال البريطاني ففي سنة (1880م) وضع في ذلك كتاباً سماه "قواعد اللغة العربية العامية في مصر" وقد أورد في هذا الكاب نبذة عن فتح العرب لمصر في سنة (19هـ) وانتشار لغتهم بين أهلها ، وقضائها على اللغة القبطية ، لغة البلاد الأصلية حسبما يرى ، والتي لم يبق من آثارها سوى بعض المفردات ، وحاول في هذا أن يثير العنصرية العرقية المصرية ضد اللغة العربية ، ثم اختتم مقدمة كتابه بشرح الفكرة التي راودته طويلاً ، وهي اتخاذ العامية المصرية لغة أدبية إذ يقول : "وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب ، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها ، ويمس أمراً هو بالنسبة غليها وإلى شعبها يكاد أن يكون مسألة حياة أو موت ، فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم العربية يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة".

ثم أخذ يؤيد فكرته التي دعا إليها بمختلف الأدلة ، فتارة بالنَيل من العربية الفصحى ، وصعوبة قواعدها وطريقة كتابتها ، وأخرى بإعلاء شأن العامية التي يزعم أنه بذل جهداً كبيراً في استنباط القواعد لتنظيمها ، حتى يثبت صلاحها للاستعمال الكتابي ، ثم يقول :
"وبالتزام الكتابة العربية الكلاسيكية القديمة لا يمكن أن ينمو أدب حقيقي ويتطور ، لأن الطبقة المتعلمة القليلة العدد هي وحدها التي يمكن أن يكون الكتاب في متناول يدها ، أما بالنسبة إلى جماهير الناس فالكتاب شيء لا يعرفونه بتاتاً ، فإذا احتاج رجل عادي من عامة الشعب إلى كتابة خطاب أو تنفيذ وثيقة فعليه أن يضع نفسه وهو مغمض العينين تحت يدي كاتب محترف ، ويجب عليه في ثقة عمياء أن يختم أهم الأوراق بختم لا يمكنه أن يقرأه ، ومن الممكن تقليده ، بل ويقلد في بعض الأحايين".

قال "ولهلْم سبيتا" كلامه هذا إذ كانت الأمية منتشرة يومئذ ، فحاول تغشية الحقيقية ، بأن نسب التخلف إلى عوامل ذاتية في اللغة العربية الفصحى ، لا إلى عوامل أخرى ناشئة عن التخلف الاجتماعي والثقافي العام ، الذي كان انتشار الأمية بعض مظاهره ، ولو تسنى له الآن أن يطّلع وهو من وراء حجاب الزمن لرأى سيول الأجيال العربية ، التي أصبحت بحمد الله وفضله تحسن القراءة والكتابة ضمن قواعد اللغة العربية الفصحى إجمالاً ولرأى أن أكثرهم قد غدا باستطاعته أن يكتب بها ما يمر في خاطره ، وما يختلج في نفسه ، من أفكار ومعان علمية وأدبية وقانونية وعاطفية ، دون الحاجة إلى المفردات العامية وأساليبها ، ولرأى أن اللغة العربية الفصحى هي اللغة المشتركة الجامعة التي تتفاهم بها جميع الشعوب العربية مهما اختلفت لهجاتها الإقليمية المحلية ، ولو أن الشعوب العربية قد أخذت بنصيحته التي هم في غنى عنها لكانوا اليوم أشتاتاً ، ليس لهم لغة جامعة ، ولعاش كل قسم منهم في عزلة تامة عن أخيه ، ولأدى الأمر بين الشعوب الإسلامية العربية إلى قريب مما وصلت إليه الشعوب الإسلامية ذات اللغات المختلفة .

وأدرك الدكتور "ولهلْم سبيتا" أن اعتراضات مهمة ستتوجه على مشروعه الخطير ، فحاول أن يقدم المبررات التخديرية التي ظن أنه قد يرضي بها الشعور الإسلامية عند المسلمين فقال :
"فلماذا لا يمكن تغيير هذه الحالة المؤسفة إلى ما هو أحسن ؟ ببساطة لأن هناك خوفاً من تهمة التعدي على حرمة الدين إذا تركنا لغة القرآن تركاً كلياً".

وقد أجاب على ذلك فقال :

"ولكن لغة القرآن لا يكتب بها الآن في أي قطر ، فأينما وجدت لغة عربية مكتوبة فهي اللغة العربية الوسطى ، أي : لغة الدواوين ، وحتى ما يدعى بالوحدة بين الشعوب الإسلامية لا يمكن أن يقلقها تبني لغة الحديث العامية ، إذ أن لغة الصلاة والطقوس الدينية الأخرى ستظل كما هي في كل مكان".

من الظاهر أنه بهذا الكلام قد حاول تخدير العواطف الإسلامية ، وذر الرماد في العيون ، وذلك لأن الحقيقة التي يعلمها هو بخلاف ذلك ، فلو أن العامية قد انتشرت انتشاراً واسعاً ، وأبعدت لغة القرآن عن الاستعمال ، لأمست لغة القرآن بعد قرون لغة مجهولة تماماً داخل الشعوب العربية ، وتتبعها في ذلك الشعوب الإسلامية قاطبة ، ولغدت العربية الفصحى شبيهة باللغات اللاتينية أو اليونانية القديمة أو السريانية غير المفهومة التي يرددها بعض الكهنة في كنائسهم .

إن هذه الفكرة الخبيثة بمثابة خنجر مسموم حاول المستشرقون أن يغمسوه في قلب الإسلام ، ولكن الله تبارك وتعالى حمى الشعوب العربية من شرها ، فقامت النهضات المباركة التي تبنت نشر العربية الفصحى داخل هذه الشعوب ، وسارت مع مسيرة محو الأمية وبث المعارف والعلوم المختلفة ، ومهما كنا بحاجة ماسة إلى خطوات أخرى واسعة في هذا المضمار ، فإن حالة اللغة أصلح بشكل عام من ذي قبل ، وإن كان هناك تدن في الخيرة الممتازة من العلماء المتضلعين بالجوانب المختلفة للغة العربية الفصحى .



يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:25 AM
ب- وأيد المستشرق الألماني "ولهلْم سبيتا" اللورد "دوفرين" في تقرير وضعه عام (1882م) دعا فيه إلى هجر اللغة العربية الفصحى ، وإحلال العامية المصرية محلها في مصر ، واعتبارها حجر الزواية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية ، وقال في تقريره :
"إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية - لغة القرآن - كما هو في الوقت الحاضر".




يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:26 AM
جـ- ثم تابع الدعوة إلى هذه الفكرة المستشرق الألماني الدكتور "كارْل فولرس" فقد تولى إدارة دار الكتب المصرية خلفاً للدكتور "ولهلْم سبيتا" وحمل بعده لواء الدعوة إلى هجر العربية الفصحى وإلى ضرورة الكتابة بالعامية الدارجة ، ووضع كتاباً سماه "اللهجة العربية الحديثة" وجه العرب فيه لاستعمال الحروف اللاتينية لدى كتابة العامية ، وحاول أن يدرس فيه قواعدها ، ممثلاً بكثير من نصوصها .

أما مقدمة هذا الكتاب فقد تحدث فيها "كارل" عن اللهجات العربية الحديثة وتعددها بتعدد الأقطار التي انتشرت فيها العربية ، وتحدث عن وجوب دراستها ، لأنها بحسب زعمه لا تمثل حالة انحطاط وتدهور للعربية الفصحى ، وإنما هي لهجات قديمة ، كان لها تاريخ ونمو منفصل يرجع إلى عصور بعيدة ، وزعم أنها تختلف عن اللغة العربية الفصحى اختلافاً كلياً ، وحاول أن يعطيها صورة تستطيع أن تنفذ بها إلى ميدان الكتابة في مختلف العصور والأقطار .

ثم أخذ يندد بجمود العربية الفصحى ، ويشبهها باللاتينية الكلاسيكية ، ويشبه العلاقة بينها وبين اللهجة العامية في مصر بالعلاقة التي بين اللاتنية الكلاسيكية والإيطالية .

وغرضه من ذلك حث العرب على أن تكون للغاتهم العامية الدارجة آداب مكتوبة ، في جميع العلوم والآداب والفنون ، لعلَّلها تنافس العربية الفصحى ، وتحتلّ مكانها لديهم ، وعندئذ تموت لديهم الفصحى بطريقة تدريجية ، ويبتعدون عن المصادر الإسلامية الرائعة ، وينقسمون إلى أوصال وأجزاء متباعدة بعدد لغاتهم الإقليمية .
وإذ زعم أنَّ اللهجات العامية الشائعة ذات جذور عميقة متصلة بلغات قديمة ، فقد حاول بذلك أن يدغدغ في الناطقين بهذه اللهجات مشاعر إقليمية محليّة ، مضادة للمشاعر الدينية المتعلقة بالعربية الفصحى تعلقاً روحياً وعلمياً وتاريخياً ، وحاول أن يحتال في هذا بغير الحيلة التي احتال بها سلفه "ولهلْم سبيتا" وهي التي أورد فيها أن العرب الذين فتحوا مصر هم الذين نشروا لغتهم بين أهلها ، وبذلك قضوا على اللغة القبطية لغة البلاد الأصلية ، وظاهر من كلام "سبيتا" أن العامية الشائعة حالة من حالات الانحطاط والتدهور للعربية الفصحى ، على خلاف كلام خلفه "فولرس" .





يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:28 AM
د- وحمل أيضاً لواء الدعوة إلى العامية الدارجة المستشرق الإنكليزي "سِلْدُن ولمور" الذي كان قاضياً في المحاكم الأهلية بالقاهرة ، إبَّان الاحتلال البريطاني ، إذ أصدر في سنة (1901م) كتاباً سماه "العربية المحكية في مصر" اتجه فيه رائد الحملة المستشرق الألماني "سبيتا" فحاول دراسة العامية المصرية الشائعة ، ووضع قواعد لها ، ودعا إلى كتابتها بحروف لاتينية ، وإلى اتخاذها لغة أدبية ، واستغل دعوته هذه ليحقق بها هدفاً من أهداف الغزاة ، هو فصل المسلمين عن لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكنوز العلوم الإسلامية وإقامة الحواجز بينهم وبين ماضيهم المجيد ، وتفتيت الوحدة اللغوية القائمة بين الشعوب الناطقة بالعربية الفصحى .

وقد استخدم هذا المستشرق في دعوته أسلوباً أكثر ذكاء من أسلوب من سبقه ، إذ عرض إقناعه لاتخاذ العامية لغة أدبية ، في صور تجعل معارضة الدعوة أمراً ذا خطر أكبر من الخطر الذي يتحاشونه ، هذا الخطر هو انقراض العامية الشائعة والعربية الفصحى معاً ، واحتلال لغة أجنبية محلها ، إذ قال :
"ومن الحكمة أن ندع جانباً كل حكم خاطئ وجِّه إلى العامية ، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد ، على الأقل في الأغراض المدنية التي ليست لها صبغة دينية ، وهناك سبب يدعو إلى الخوف هو أنه إذا لم يحدث ذلك ، وإذا لم نتخذ طريقة مبسطة للكتابة فإن لغة الحديث ولغة الأدب ستنقرضان ، وستحل محلها لغة أجنبية ، نتيجة لزيادة الاتصال بالأمم الأوربية".

ولكن هذا الخطر الذي حاول أن يخوف منه قد حل محله بفضل الله وحمده طمأنينة على العربية الفصحى ، وذلك بعد نحو نصف قرن وأكثر من تحذيراته ، إذ أخذت الفصحى تنتشر وتزدهر ، ويُسهم انتشارها وازدهارها في ارتفاع مستوى العامية الشائعة ، إلى درجات حسنة من الرقي اللغوي ، وذلك بموت كثير من المفردات والأساليب النابية فيها ، الأمر الذي جعل يدنيها شيئاً فشيئاً من قواعد الفصحى ومفرداتها ، وإن كان ما يزال بينهما بون شاسع ، فإن كثيراً من مظاهر انحطاط العاميات قد بدأ يختفي اختفاء يدعو إلى التفاؤل بالتطور إلى الكمال ، والقرب من الأصل الفصيح .

وأصبح حفظ القرآن بحمد الله ظاهرة منتشرة في الأجيال العربية الناشئة ، ولا يجد حفَّاظه صعوبة في حفظه ، مع أنه قمة الأداء الفصيح للعربية ، ولا يعوقهم حفظه عن الأخذ بجوانب المعرفة ، بل كثيراً ما يساعد على ذلك ، فنجد كثيراً من المتفوقين في دراسة العلوم هم من حفظة القرآن .



يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:31 AM
هـ- وفي أثناء هذه الموجة التي أثارها "سلدن ولمور" نشر عالم أمريكي في فقه اللغة مقالة دعا فيها إلى اتخاذ العامية لغة أدبية ، وإلى كتابتها بحروف لاتينية ، وعبر فيها عن أمانيه بإدخال هذا التطور في بلد عربي مسلم ، وسار على الخط الذي سار عليه "سبيتا" من قبل .



يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:33 AM
و- وحمل أيضاً لواء هذه الدعوة المستشرقان الإنكليزيان "باول" و"فيلوت".
أما الأول فقد كان قاضياً في المحاكم الأهلية بالقاهرة ، وأما الثاني فقد كان أستاذاً للغات الشرقية في جامعة "كمبردج" وجامعة "كلكتا" وقد اشتركا في وضع كتاب أسمياه "المقتضب في عربية مصر" حاولا فيه أن يضعا قواعد لتسهيل تعلم اللغة العامية المصرية ، تلك اللغة التي ضاعت كرامتها على حد زعمها بتركها تنساب مفككة بدون ضوابط تربطها ، حتى أصبحت كأنها لا وجود لها ، لأن آدابها ليست مكتوبة ، وأخذا يرددان الشكوى من صعوبة اللغة العربية الفصحى ، ومن صعوبة كتابتها الخالية من حروف الحركة .




يبتع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:35 AM
ز- وأخطر من اضطلع بكبر الدعوة إلى إقضاء العربية الفصحى عن ميدان الكتابة والآداب ، وإحلال العامية الشائعة محلها ، وأكثرهم إلحاحاً وطول نفس ، المستشرق الإنكليزي ، "وليم ولكوكس" الذي كان مهندساً للري في القاهرة إبان الاحتلال البريطاني ، فقد وفد إلى مصر سنة (1883م) مع أوائل عهد الاحتلال ، وتولى الإشراف على تحرير مجلة الأزهر سنة (1893م) أي : بعد عشر سنوات من قدومه ، وذلك لمدة أشهر فقط .

وقد كان لهذا المستشرق نشاط ظهر وتحمّس ملحّ ، في بث هذه الدعوة بين العرب ، فلم يأل جهداً في ذلك .

ففي سنة (1893م) ألقى في نادي الأزبكية محاضرة بعنوان : "لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن"
وقد ضمَّن هذه المحاضرة الدعوة الملحة إلى الكتابة بالعامية ، وهجر العربية الفصحى ، ونشر هذه المحاضرة بالعربية في مجلة الأزهر ، إذ كانت هذه المجلة تحت إشرافه ، باعتباره ممثلاً لقوة الاحتلال الأجنبية .

وهذه المحاضرة تدور حول ربط انحطاط قوة الاختراع والابتكار في العصور المتأخرة عند العرب (وهو يخاطب في هذا عرب مصر) بسبب اضطرارهم إلى أن يتقيدوا بالعربية الفصحى ، لدى الكتابة والتأليف ، وأنهم متى كسروا هذا الحاجز ، وصاروا يكتبون وينشرون باللغة العامية الشائعة نمت عندهم من جديد قوة الاختراع والإبداع .
وقد يبدو هذا الرابط غريباً ، ولكنه استطاع أن يزور له سفسطة ينخدع بها أحداث الأحلام ، ويجد الأجراء فيها مجالاً للبحث وتزويق الألفاظ ، ولذلك حاولوا أن يروجوا لها في بعض صحفهم ومجلاتهم .

إنه ربط انحطاط قوة الاختراع والإبداع بتقيد الناس لدى الكتابة والتأليف بالعربية الفصحى ، وحاول عن تعمد أن يتجاهل السبب الحقيقي الذي تكمن فيه مشكلة التخلف العام ، وهو لا يمتُّ إلى اللغة بصلة ما ، وإنما يرجع إلى أحاول اجتماعية كثيرة ، أهمها الجهل العام ، وانتشار الأمية ، وانصراف الناس للسعي وراء لقمة العيش ، وانشغالهم بالملذات المؤقتة ، وتكالب أعدائهم عليهم ، إذ أخذوا يفرضون عليهم ظروف التخلف بشكل مباشر أو غير مباشر ، وكان من نتائج تراكب عوامل التخلف عليهم حملهم على السير في الطرق المتعرجة المنحدرة ، بقوى متسارعة تتنامى كلما زادت نسبة الانحدار بعيداً عن مركز الانطلاق الكريم .

ويتضح من محاضرة "ولكوكس" أن هدفه من الدعوة إلى العامية هو القضاء على العربية الفصحى ، ليحرم المسلمين من تراثهم العظيم الديني والعلمي والأدبي ، تنفيذاً للخطة الماكرة التي تهدف إلى طعن الإسلام في الصميم .

وفي سنة (1926م) نشر "ولكوكس" رسالة بعنوان : "سورية ومصر وشمال إفريقية ومالطة تتكلم البونية لا العربية" .
وهذه الرسالة تدور حول مزاعم تحايل لإثباتها بأدلة واهية ، وتقضي هذه المزاعم بأن اللغات العامية التي ينطق بها أهل الشام وأهل مصر وليبيا والمغرب وتونس والجزائر ومالطة هي اللغة الكنعانية أو الفينيقية ، أو البونية السابقة للفتح الإسلاميِّ ، ولا صلة لها بالعربية الفصحى ، وهدفه من ذلك كهدف زملائه من دعاة هذه الفكرة إثارة العصبيات القومية لهذه اللغات العامية ضد العربية الفصحى ، حتى يتشجع سكان هذه البلاد على اتخاذ لغاتهم العامية في كتاباتهم العلمية والأدبية والحقوقية وغيرها ، كيما تحلّ محلّ الفصحى ، وبتطاول الزمان تزداد الفروق اللغوية بينهم وبين الفصحى ، فتنقطع صلتهم بها ، وبذلك تنقطع صلتهم بمصادر الدين الإسلامي ، كما تزداد الفروق اللغوية بين سكان الأقاليم العربية ، ومع دسائس فكرية ونفسية وتاريخية تتأصل عصبيات إقليمية ضيقة الحدود ، ثم تتحول هذه العصبيات الإقليمية تدريجياً حتى تكون عصبيات قومية ، وعند ذلك يستطيع الغزاة أن يشحنوها بمقدار كبير من العداء والكراهة وعوامل الشقاق .

وقد بلغ العداء في نفس المستشرق "ولكوكس" للعربية الفصحى مبلغه ، إذ جعل ينظر إليها وكأنها لغة جوفاء ، لا تحمل أي معنى من المعاني لسامعيها ، ممن يتحادثون بالعامية ، وما هي إلا ألفاظ رنانة فقط ، إذ يقول:

"ومن السهل جداً أن ترى في هذه البلاد ذلك التأثير المخدر ، الذي تحدثه الألفاظ الرنانة ، التي لا تفهم منها لفظة واحدة في نفس السامع ، إن سماع مثل هذه الألفاظ يقتل في الذهن كل ابتكار بين أولئك الذين لا يقرأون ، كما تقتله أيضاً في نفس الطالب تلك الدروس التي تلقى عليه باللغة العربية الفصحى المصطنعة ، التي تبلغ الرأس دون القلب ، فتمنع من يتسمّون بالعلماء في هذه البلاد من التفكير البكر".

وهكذا سار في رسالته على هذا النسق من المغالطات الفاحشة التي يعزو فيها حالة التأخر إلى العربية الفصحى
وكما هاجم "ولكوكس" في رسالته العربية الفصحى هاجم العرب بشتائم تكشف عن مبلغ حقده الصليبي عليهم ، فهم في نظره كسالى ، قتلة ، لصوص ، قطاع طرق ، جبناء ، ويستند في ذلك إلى مزاعم يسوقها على أنها تجارب شخصية ، ويحاول بذلك أن يحكم الفصل بين سكان سورية ومصر والمغرب العربي ومالطة وبين عرب الجزيرة ، تجزئة لهذه الأمة الواحدة في لغتها وتاريخها ورسالتها الدينية .

وتصدت الكثرة الكاثرة من الناطقين بالعربية لمهاجمة الدعوة إلى العامية وهجر العربية ، وكان تصديهم مدعماً بالحجج القاطعة ، ومؤيداً بالبراهين الصحيحة ، وأخذوا يفندون المزاعم الواهية التي استند إليها حملة لواء هذه الدعوة ، ويهتكون الأستار عن الأهداف الحقيقية منها ، فلجأ "ولكوكس" إلى الإغراء بالمكافآت التشجيعية للذين يتبارون بكتابة الآداب والعلوم بالعامية ، فلم يظفر من ذلك بطائل يشجعه على تحقيق أمنية الدوائر الاستعمارية والاستشراقية ، ولما رأى أنه مُني بالفشل أعلن إغلاق المجلة التي أسسها لهذا الغرض ، بعد أن أصدر العدد العاشر منها .



يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:37 AM
ح- وآزر الدعوة إلى العامية وترك الكتابة بالحروف العربية ، منخدعون ومأجورون ومستغربون من أبناء اللغة العربية ، وتحمس لها طائفة من رجال الكنيسة ، وانتقلت هذه الدعوة من مصر إلى المغرب وإلى لبنان .

وانجرف في تيارها عدد من قادة الأدب العربي ، ما بين مساير للمستشرقين مسايرة تامة ، ومعتدل متوسط ، ومتخذ بعض الخطوات التي أطلق عليها اسم الإصلاح .

فكان "لطفي سيد" من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها دعاتها من المستشرقين .

وفي إطار الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية ، أو إصلاح الكتابة العربية ، قدمت عشرات من المشروعات ، أخطرها مشروع قدمه "عبد العزيز فهمي باشا" لكن مشروعه قوبل بالسخط والنكير الشديدين من حماة اللغة العربية الذائدين عنها .
وكان من المتوسطين الذين دعوا إلى نشر اللغة الوسطى بين العامية والفصحى : "فريد أبو حديد – توفيق الحكيم – أمين الخولي" .

ثم دعا "طه حسين" إلى شيء أسماه "تطوير اللغة" بتبديل الخط العربي أو إصلاحه وتهذيب قواعد النحو والصرف ، ولا يخفى ما في ذلك من مكر يقوم على أسلوب التدرج في التحويل ، لتحقيق الهدف الذي دعا إليه المستشرقون .

ثم حمل لواء الدعوة التي دعا إليها المستشرقون الذين سبق ذكرهم عدد من أدباء العرب في لبنان وغيره ، منهم : "سعيد عقل – أنيس فريحة – ولويس عوض".

وقد لا نعجب كثيراً إذا وجدنا معظم المتحمسين للفكرة من النصارى ، لأنهم يعبرون في ذلك عن كراهيتهم للإسلام ولغة القرآن ، ولكن نعجب أشد العجب إذا رأينا من أحفاد السلالات العربية الإسلامية من يستأجر للدعوة إليها .

وعلى الرغم من أن الدعوة لم يكتب لها النجاح في العالم العربي ، إلا أن الغزاة المقنعين لم ييأسوا من تكرير محاولاتهم ، وتحريك أجهزتهم ، لعلهم يحققون بعض أهدافهم الرامية إلى طعن العربية الفصحى ، وطعن الإسلام من وراء ذلك ، وتمزيق وحدة الأمة العربية المسلمة .

ففي حزيران سنة (1973م) انعقد مؤتمر في "برمّانا" بلبنان ، وفي هذا المؤتمر تقدمت بعض الهيئات الأجنبية بمشروع "العربية الأساسية" ويشتمل هذا المشروع على عناصر هدم لمعالم اللغة العربية ، ولما علم شيخ الأزهر يومئذ الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود بما جاء في هذا المشروع أعلن استنكاره ، ووجه التحذير منه .

وكشف الدكتور "عمر فروخ" في تقريره عما دار في المؤتمر خيوط المكيدة المدبرة ضدَّ اللغة العربية والإسلام ، إذ قال في تقريره :
"وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر ، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات ، جرت بحوث واقتراحات وملاحظات ، جعلتني أوجس خيفة شديدة من المشروع... إن كل ما دار في مؤتمر برمّانا كان يولد فيَّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر الاهتمام بالعامية... لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ، ونفر من العرب غير اللبنانيين ، (وكثرة) من الأجانب ، لفت نظري أن جلَّهم من الرهبان اليسوعيين ...".



يتبع ..

جمانة كتبي
04-12-2011, 12:39 AM
ردود على مزاعم خصوم الفصحى




من جيد الردود المنطقية التي ظهرت إبان دعوة "ولكوكس" وأنصاره إلى العامية وهجر العربية الفصحى ، رد للأستاذ "إبراهيم مصطفى" إذ بيَّن فيه أن العربية الفصحى تحتل - بحسب صفاتها الذاتية واستناداً إلى المقارنات الموضوعية بينها وبين سائر اللغات - أرقى درجة من درجات الكمال التي تحتلها اللغات المنتشرة في العالم.

لقد أشار إلى ما قام به علماء اللغات من تقسيم اللغات على تباينها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول : لغات أحادية المقطع ، وهي خالية من حروف المعاني ، وعدد كلماتها أقل من غيرها بكثير ، ولا تتغير صيغتها ، ولا تدل على النوع أو الكيفية أو العدد أو الزمن أو النسب بين الأشياء ، ولكن كل ذلك يفهم من تكييف الصوت بهذه المقاطع في الكلام المنطوق ، أما في الكلام المكتوب فيمكن فهمه من مكان الكلمة في الجملة ، ومن أمثلة هذا القسم اللغة الصينية ، وعدد كلماتها قليل جداً ، إلا أن هذه الكلمات تنطق على وجوه صوتية مختلفة للدلالة على المراد ، ويتطلب التمييز بينها مهارة خاصة في السمع ، وقد يعبَّر في هذا القسم من اللغات عن المعنى الواحد بعدد من الكلمات ، كأن يعبَّر عن معنى الأسرة مثلاً بما يلي : (زوج - زوجة - أولاد).
القسم الثاني : لغات مزجية ، وهي لغات تعتمد على ضمِّ الكلمات بعضها إلى بعض للدلالة فيها على النسب الزمانية والمكانية وغيرها ، مع محافظة كل كلمة منها على صيغتها وشكلها ومعناها ، فالمعنى الذي يمكن تأديته بكلمة واحدة يحتاج للدلالة عليه في هذا القسم من اللغات إلى سطر طويل ، مؤلف من عدة كلمات مرصوصة ، ومن أمثلة هذا القسم اللغة اليابانية .

القسم الثالث : لغاتٌ اشتقاقية ، وهي لغات تكون الدلالة فيها على مختلف النسب المتعلقة بالزمان أو المكان أو العدد أو الكيفية أو النوع أو غيرها ، بتغيير صور كلماتها عن طريق التصريف والاشتقاق ، مع المحافظة على المادة الأصلية للكلمة ، وللغات هذا القسم حروف معانٍ تربط الألفاظ والتراكيب بعضها ببعض ، ومن أمثلة هذا القسم اللغة العربية الفصحى ، واللغات الأوربية ، ولكن اللغة العربية تحتل المرتبة الأولى بينها ، لأنها تمثل حالة راقية من حالات التقدم الحضاري في الميدان اللغوي .

إن القسم الأول من هذه اللغات إنما يمثل طوراً بدائياً من أطوار الحضارة اللغوية ، ولا يفي بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً ، ويتبعه القسم الثاني فيمثل طوراً أرقى نسبياً من الطور الأول ، وهو مع ذلك لا يفي كل الوفاء بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً ، وأما القسم الثالث فهو القسم الذي يمثل أرقى تطورٍ لغوي يفي بالتعبير عن جميع المعاني التي تحتوي عليها الحضارات الراقية .

ثم أجرى مقارنة بين العربية الفصحى وسائر اللغات الاشتقاقية ، فأثبت أن العربية امتازات بخصائص تجعلها من أليق اللغات وأكثرها تلبية لحاجات العلوم ، فمن خصائصها الأمور التالية :
أولاً : سعتها ، أي : كثرة عدد مفرداتها ، فبينما نجد عدد كلمات اللغة الفرنسية نحواً من خمسة وعشرين ألفاً ، وعدد كلمات اللغة الإنكليزية نحواً من مئة ألف ، ومعظم هذا العدد اصطلاحات علمية وصناعية ، وبسبب غنى العربية وسعتها نجد فيها للمعاني الشديد التقارب كلمات خاصة بكل معنى منها ، مهما كانت درجة التفاوت ، وبذلك لا يكون محلٌّ للالتباس أو الإبهام اللذين هما آفة العلم والأدب .

ثانياً : توغلها في ميدان الاشتقاق ، متابعة للمعاني المترابطة ببعضها ، فللمادة الواحدة مصدر للدلالة على المعنى مجرداً عن الزمن ، وأفعال بعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الماضي ، وبعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الحاضر أو المستقبل ، وبعضها يدل على المعنى مقترناً بالأمر بفعله ، وللمادة أيضاً صيغة تدل على الشخص الذي فعل ذلك المعنى أو قام به ، وتسمى اسم الفاعل ، وصيغة أخرى تدل على المفعول به ، وثالثة تدل على زمانه ، ورابعة تدل على مكانه ، وخامسة تدل على النسبة ، وسادسة على التفضيل ، وسابعة على التعجب ، و ثامنة على التصغير ، وهكذا .

وليس في أية لغة من لغات العالم هذا الانطلاق اللغوي المترابط في ميدان الاشتقاق اللفظي ، المناظر والمناسب لترابط المعاني فكرياً .

ثالثاً : معظم مشتقاتها تقبل التصريف إلا فيما ندر منها ، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها ، ويجعلها أيضاً أكثر تلبية حاجة المتكلمين .

وبهذا نستطيع أن نجعل اللغات العالمية مرتبة من الأدنى إلى الأعلى على الوجه التالية :

1- اللغات أحادية المقاطع ، وهي في المرتبة الدنيا .
2- اللغات المزجية ، وهي في المرتبة الثانية .
3- اللغات الأوربية ، وهي في المرتبة الثالثة .
4- العربية الفصحى ، وهي أرقى اللغات وأمثلها بالعلم .
وعلى هذا التحليل العلمي المتين كان ردّ "إبراهيم مصطفى" على خصوم العربية الفصحى ، إذن فالذين يحاولون أن يحلو العامية محلها يريدون أن ينحطوا بالأمة العربية في ميدان الحضارة اللغوية ، إضافة إلى أغراضهم الأخرى الرامية إلى فصل المسلمين عن مصادر الإسلام ، وتجزئة الأمة العربية .

أما الحجج الواهية التي يلوكها خصوم العربية الفصحى في محاولتهم إحلال العاميات محلها فلا تستطيع أن تقف في وجه حقيقة اللغة العربية إلا موقف اللص الجبان ، الذي يحاول أن يسرق الإنسان من نفسه ، ويجعله يتنازل طائعاً عن جزء من كيانه ، وعنصر من عناصر قوته. إن حججهم لا تعدو أن تكون مخادعة كلامية لا أساس لها من الحقيقة .

وما مثل خصوم العربية الفصحى إلا كمثل جاسوس قوم معادين محاربين ، اندسَّ بين صفوف قوم آمنين مسالمين ، وكان لهؤلاء القوم المسالمين ميراث عظيم من قوة الحرب وآلاته ، ولكن القليل منهم الذين يحسنون استعمال هذه الآلات العظيمة التي لا يملك العدو نظيرها ، فلبس هذا الجاسوس الثعلب المندس فيه ثياب الناصحين ، وجعل يطوف بين صفوفهم ويقول : إن هذه الآلات الحربية المخزونة عندكم معقدة وصعبة الاستعمال ، والقليل منكم هم الذين يحسنون استعمالها ، وإنكم إذا تركتكم هذه الآلات الصعبة جانباً ، واستعملتم الأسلحة التي يُحسن استعمالها كل فرد فيكم ، وهي العصي والسكاكين والحجارة ، فإنكم ستتقدمون وتضاهون أعداءكم في قوتهم ، لأن كل فرد منكم سيساهم في عمل من أعمال الدفاع على قدر استطاعته ، وسينبغ بذلك فيكم أفذاذ قوة وأبطال شجاعة ، وبهذه الطريقة ستتهيأ للجميع فرصة الاشتراك في إحراز التقدم ، وإني ناصح لكم .

ثم أخذ هذا العدو المندس يكرر هذا الكلام ، ويعيده مرة تلو المرة ، ويقلبه على عدة وجوه .

فهل يقبل كلامه هذا أحدٌ من العقلاء المخلصين لأمتهم؟
هيهات... ولكن سيقول الجميع إننا سندرب القادرين والقادرات من رجال أمتنا ونسائهم على استعمال هذه الآلات الحربية الضخمة التي يحويها ميراثنا العظيم ، ولأن نؤخر المعركة مع عدونا مدّة من الزمن بالمطاولة والمراوغة ، حتى نحسن استعمال ما لدينا من آلات حربية معقدة ، خير لنا من أن نعرض أنفسنا لمواجهة التهلكة ، إذ نخوض معارك القرن العشرين بأسلحة القرون الأولى من حجارة وعصيٍّ وسكاكين .

وما أظنني قد بالغت في ضرب هذا المثل ، لإبانة وجه المكر الذي تنطوي عليه الدعوة التي أخذت تحاول أن تخدع الأمة العربية الإسلامية ، لتهجر العربية الفصحى ، لدى كتابة العلوم والآداب ، ولِتُحِّل محلها العاميات المختلفة فيما بينها اختلافاً كبيراً ، ولتستبدل الرسم اللاتيني برسمها .

وقد انكشف لنا تماماً أن هدف العدو من ذلك أن يقطع الصلة بين الأمة العربية الإسلامية وبين تاريخها ودينها وعلومها ، ويقيم الحواجز اللغوية الغليظة بين أبناء الأقاليم والأقطار العربية ، كما أقام بينهم من قبل الحواجز السياسية المصطنعة ، وغاية ما لدى ثعلب النصيحة من حجج ما يلي :

الحجة الأولى : أن كثيراً من سكان الأقطار العربية لا يحسنون الكتابة والقراءة بالعربية الفصحى .

وقد غدت هذه الحجة بعد أقل من نصف قرن حجة ساقطة ، إذ أخذت العربية المنضبطة وفق قواعد الفصحى تنتشر بين الأجيال العربية الحديثة ، انتشاراً مواكباً لانتشار العلم بينها ، حتى أصبح العامي الذي لا يحسن العربية الفصحى يمج بالذوق استماع النص الملحون ، من الخطيب أو المحاضر أو مذيع الراديو ، ويحسُّ بأن فيه خللاً وإن كان لا يعرف وجه ذلك الخلل .

الحجة الثانية : أن الاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة كثيرة ، وليس في العربية الفصحى كلمات تدل عليها .

ويبدو أن هذه الحجة في منتهى الضعف أيضاً ، وردها يكون من وجهين :
أولهما : أن لغات العالم كلها بما فيها العاميات الشائعة في الأقطار العربية ، ليس فيها كلمات تدل على ما يحدث من مكتشفات علمية ومخترعات حديثة ، وهي تلجأ إلى إدخال مصطلحات حديثة على لغاتها لتدل عليها .

وثانيهما : أن العربية الفصحى فاتحة بابها لضم أية مصطلحات جديدة لمعان علمية مبتكرة ، وأسماء لمخترعات حديثة ، مثلما اتسعت في عصور التدوين لألوف من المصطلحات النحوية والصرفية والبلاغية والفقهية والفلسفية والطبية والكيميائية والفيزيائية وغيرها ... وكل هذه المصطلحات لم تكن معروفة قبل العصور الإسلامية ، والمجامع العربية مسؤولة عن توحيد المصطلحات الحديثة ، واختيار الألفاظ العربية المناسبة للمستحدثات من المعاني الفكرية ، والأشياء المادية ، ومسؤولة عن تعميمها على الأقطار العربية .

الحجة الثالثة : صعوبة اللغة العربية ، وهذه الحجة معارضة بالنظير ، فالعاميات التي يدعون إلى ضبطها ستكون أكثر صعوبة من الفصحى المضبوطة بالقواعد ، بسبب الشذوذات الكثيرة الموجودة في هذه العاميات ، يضاف إلى ذلك أن الأمة الواحدة ستحتاج إلى تعلم نحو عشر لغات عامية على الأقل ، حينما يتطاول العهد عليها وتزداد الفوارق في العاميات المختلفة الشائعة في أقاليمها ، أو سيحدث الانفصام التام الذي هو شر من تحمل بعض الصعوبة في تعلم العربية الفصحى .

على أن شيوع الفصحى سيخفف كثيراً من صعوبتها ، إذ يجعلها مثل لغة التخاطب العادي ، أو داخلة في كثير من عناصره ، وقد وقع بعض هذا فعلاً .



المصدر كتاب :



أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها


التبشير – الاستشراق – الاستعمار


عبد الرحمن الميداني