ريمة مطهر
03-06-2011, 10:00 PM
سعيد بن جبير
( الطبقة الثانية من التابعين )
ابن هشام ، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد ، أبو محمد ، ويقال : أبو عبد الله الأسدي الوالبي ، مولاهم الكوفي ، أحد الأعلام .
روى عن : ابن عباس فأكثر وجود ، وعن عبد الله بن مغفل ، وعائشة ، وعدي بن حاتم ، وأبي موسى الأشعري في سنن النسائي ، وأبي هريرة ، وأبي مسعود البدري - وهو مرسل - وعن ابن عمر ، وابن الزبير ، والضحاك بن قيس ، وأنس ، وأبي سعيد الخدري .
وروى عن التابعين ، مثل : أبي عبد الرحمن السلمي . وكان من كبار العلماء .
قرأ القرآن على ابن عباس . قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وطائفة .
وحدث عنه : أبو صالح السمان ، وآدم بن سليمان والد يحيى ، وأشعث بن أبي الشعثاء ، وأيوب السختياني وبكير بن شهاب ، وثابت بن عجلان ، وأبو المقدام ثابت بن هرمز ، وجعفر بن أبي المغيرة ، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية ، وحبيب بن أبي ثابت ، وحبيب بن أبي عمرة ، وحسان بن أبي الأشرس ، وحصين ، والحكم ، وحماد ، وخصيف الجزري ، وزر الهمداني ، وزيد العمي ، وسالم الأفطس ، وسلمة بن كهيل ، وسليمان بن أبي المغيرة ، وسليمان الأحول ، وسليمان الأعمش ، وسماك بن حرب ، وأبو سنان ضرار بن مرة ، وطارق بن عبد الرحمن ، وطلحة بن مصرف ، وأبو سنان طلحة بن نافع ، وأبو حريز عبد الله بن حسين ، وابنه عبد الله بن سعيد ، وعبد الله بن عثمان بن خثيم ، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى ، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي ، وعبد الكريم الجزري ، وعبد الكريم أبو أمية البصري ، وابنه عبد الملك بن سعيد ، وعبد الملك بن أبي سليمان ، وعبد الملك بن ميسرة ، وعثمان بن حكيم ، وعثمان بن أبي سليمان ، وعثمان بن قيس ، وعدي بن ثابت ، وعزرة بن عبد الرحمن ، وعطاء بن السائب ، وعكرمة بن خالد ، وعلي بن بذيمة ، وعمار الدهني ، وعمرو بن دينار ، وعمرو بن سعيد البصري ، وعمرو بن عمرو المدني ، وعمرو بن مرة ، وعمرو بن هرم ، وفرقد السبخي ، وفضيل بن عمرو الفقيمي ، والقاسم بن أبي أيوب ، والقاسم بن أبي بزة ، وكثير بن كثير بن المطلب ، وكلثوم بن جبر ، ومالك بن دينار ، ومجاهد رفيقه ، ومحمد بن سوقة ، ومحمد بن أبي محمد ، والزهري ، ومحمد بن واسع ، ومسعود بن مالك ، ومسلم البطين ، والمغيرة بن النعمان ، ومنصور بن حيان ، ومنصور بن المعتمر ، والمنهال بن عمرو ، وموسى بن أبي عائشة ، وأبو شهاب الحناط الأكبر موسى بن نافع ، وميمون بن مهران ، وهشام بن حسان ، وهلال بن خباب ، ووبرة بن عبد الرحمن ، ووهب بن مأنوس ، وأبو هبيرة يحيى بن عباد ، ويحيى بن ميمون أبو المعلى العطار ، ويعلى بن حكيم ، ويعلى بن مسلم ، وأبو إسحاق السبيعي ، وأبو حصين الأسدي ، وأبو الزبير المكي ، وأبو الصهباء الكوفي ، وأبو عون الثقفي ، وأبو هاشم الرماني ، وخلق كثير .
روى ضمرة بن ربيعة ، عن أصبغ بن زيد ، قال : كان لسعيد بن جبير ديك ، كان يقوم من الليل بصياحه ، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح ، فلم يصل سعيد تلك الليلة ، فشق عليه ، فقال : ما له قطع الله صوته ؟ فما سمع له صوت بعد . فقالت له أمه : يا بني ، لا تدع على شيء بعدها .
قال أبو الشيخ : قدم سعيد أصبهان زمن الحجاج ، وأخذوا عنه .
وعن عمر بن حبيب قال : كان سعيد بن جبير بأصبهان لا يحدث ، ثم رجع إلى الكوفة فجعل يحدث ، فقلنا له في ذلك فقال : انشر بزك حيث تعرف .
قال عطاء بن السائب : كان سعيد بن جبير بفارس ، وكان يتحزن ، يقول : ليس أحد يسألني عن شيء . وكان يبكينا ، ثم عسى أن لا يقوم حتى نضحك .
شعبة ، عن القاسم بن أبي أيوب : كان سعيد بن جبير بأصبهان ، وكان غلام مجوسي يخدمه ، وكان يأتيه بالمصحف في غلافه .
قال القاسم بن أبي أيوب : سمعت سعيداً يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله " .
أنبأنا أحمد بن أبي الخير ، عن اللبان ، أنبأنا الحداد ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا سعيد بن أبي الربيع السمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن إسحاق مولى عبد الله بن عمر ، عن هلال بن يساف ، قال : دخل سعيد بن جبير الكعبة فقرأ القرآن في ركعة .
الحسن بن صالح ، عن وقاء بن إياس ، قال : كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان ، وكانوا يؤخرون العشاء .
قلت : هذا خلاف السنة ، وقد صح النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث .
يزيد : أنبأنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين .
يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة : كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه ، يقول : أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟ يعني سعيد بن جبير .
قال ابن مهدي ، عن سفيان ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه قال : لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه .
وقال ضرار بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : التوكل على الله جماع الإيمان .
وكان يدعو : اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك ، وحسن الظن بك .
أبو عوانة ، عن هلال بن خباب ، قال : خرجت مع سعيد بن جبير في رجب ، فأحرم من الكوفة بعمرة ، ثم رجع من عمرته ، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة ، وكان يحرم في كل سنة مرتين ، مرة للحج ، ومرة للعمرة .
ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك ، فتلك الخشية ، والذكر طاعة الله ، فمن أطاع الله فقد ذكره ، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن .
وروي عن حبيب بن أبي ثابت : قال لي سعيد بن جبير : لأن أنشر علمي أحب إليّ من أن أذهب به إلى قبري .
قال هلال بن خباب : قلت لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : إذا ذهب علماؤهم .
وقال عمر بن ذر : كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتاباً أوصاه بتقوى الله وقال : إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة ، فذكر الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره .
أحمد حدثنا معتمر ، عن الفضيل بن ميسرة ، عن أبي حريز ، أن سعيد بن جبير قال : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر . تعجبه العبادة ويقول : أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة .
عباد بن العوام : أنبأنا هلال بن خباب : خرجنا مع سعيد بن جبير في جنازة ، فكان يحدثنا في الطريق ويذكرنا ، حتى بلغ ، فلما جلس ، لم يزل يحدثنا حتى قمنا ، فرجعنا ، وكان كثير الذكر لله .
وعن سعيد ، قال : وددت الناس أخذوا ما عندي ؛ فإنه مما يهمني .
أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، قال : أتيت سعيد بن جبير بمكة ، فقلت : إن هذا الرجل قادم - يعني خالد بن عبد الله - ولا آمنه عليك ، فأطعني واخرج . فقال : والله لقد فررت حتى استحييت من الله . قلت : إني لأراك كما سمتك أمك سعيداً . فقدم خالد مكة ، فأرسل إليه فأخذه .
أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا أمية بن شبل ، عن عثمان بن برذويه قال : كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة بنخيل ابن عامر ، فقال له وهب : يا أبا عبد الله ، كم لك منذ خفت من الحجاج ؟ قال : خرجت عن امرأتي وهي حامل ، فجاءني الذي في بطنها وقد خرج وجهه . فقال وهب : إن من قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عده رخاء ، وإذا أصابه رخاء عده بلاء .
قال سالم بن أبي حفصة لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال : أنا سعيد بن جبير ، قال : أنت شقي بن كسير ، لأقتلنك . قال : فإذا أنا كما سمتني أمي ، ثم قال : دعوني أصل ركعتين . قال : وجهوه إلى قبلة النصارى . قال : " فأينما تولوا فثم وجه الله " وقال : إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم . قال : وما عاذت به ؟ قال : قالت : " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " .
رواها ابن عيينة ، عن سالم . ثم قال ابن عيينة : لم يقتل بعد سعيد إلا رجلاً واحداً .
وعن عتبة مولى الحجاج ، قال : حضرت سعيداً حين أتي به الحجاج بواسط ، فجعل الحجاج يقول : ألم أفعل بك ؟ ! ألم أفعل بك ؟ ! فيقول : بلى . قال : فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا ؟ قال : بيعة كانت عليّ - يعني لابن الأشعث - فغضب الحجاج وصفق بيديه ، وقال : فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى . وأمر به ، فضربت عنقه .
وقيل : لو لم يواجهه سعيد بن جبير بهذا ، لاستحياه كما عفا عن الشعبي لما لاطفه في الاعتذار .
حامد بن يحيى البلخي : حدثنا حفص أبو مقاتل السمرقندي ، حدثنا عون بن أبي شداد : بلغني أن الحجاج لما ذكر له سعيد بن جبير أرسل إليه قائداً يسمى المتلمس بن أحوص في عشرين من أهل الشام . فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعته ، فسألوه عنه فقال : صفوه لي ، فوصفوه فدلهم عليه ، فانطلقوا فوجدوه ساجداً يناجي بأعلى صوته ، فدنوا وسلموا ، فرفع رأسه ، فأتم بقية صلاته ، ثم رد السلام ، فقالوا : إنا رسل الحجاج إليك ، فأجبه ، قال : ولا بد من الإجابة ؟ قالوا : لا بد . فحمد الله وأثنى عليه وقام معهم حتى انتهى إلى دير الراهب ، فقال الراهب : يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم ؟ قالوا : نعم . فقال : اصعدوا ، فإن اللبؤة والأسد يأويان حول الدير . ففعلوا وأبى سعيد أن يدخل . فقالوا : ما نراك إلا وأنت تريد الهرب منا ، قال : لا ، ولكن لا أدخل منزل مشرك أبداً ، قالوا : فإنا لا ندعك ، فإن السباع تقتلك ، قال : لا ضير ، إن معي ربي يصرفها عني ويجعلها حرساً تحرسني ، قالوا : فأنت من الأنبياء ؟ قال : ما أنا من الأنبياء ، ولكن عبد من عبيد الله مذنب . قال الراهب : فليعطني ما أثق به على طمأنينة . فعرضوا على سعيد أن يعطي الراهب ما يريد ، قال : إني أعطي العظيم الذي لا شريك له ، لا أبرح مكاني حتى أصبح إن شاء الله . فرضي الراهب بذلك ، فقال لهم : اصعدوا وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح ; فإنه كره الدخول في الصومعة لمكانكم . فلما صعدوا وأوتروا القسي ، إذا هم بلبؤة قد أقبلت ، فلما دنت من سعيد ، تحككت به وتمسحت به ، ثم ربضت قريباً منه . وأقبل الأسد يصنع كذلك . فلما رأى الراهب ذلك وأصبحوا ، نزل إليه ، فسأله عن شرائع دينه ، وسنن رسوله ، ففسر له سعيد ذلك كله ، فأسلم . وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه ، ويأخذون التراب الذي وطئه فيقولون : يا سعيد ، حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق ، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه ، فمرنا بما شئت ، قال : امضوا لأمركم ، فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه ، فساروا حتى بلغوا واسطاً فقال سعيد : قد تحرمت بكم وصحبتكم ، ولست أشك أن أجلي قد حضر فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت ، وأستعد لمنكر ونكير ، وأذكر عذاب القبر ، فإذا أصبحتم فالميعاد بيننا المكان الذي تريدون . فقال بعضهم : لا تريدون أثراً بعد عين ، وقال بعضهم : قد بلغتم أمنكم واستوجبتم جوائز الأمير ، فلا تعجزوا عنه . وقال بعضهم : يعطيكم ما أعطى الراهب ، ويلكم أما لكم عبرة بالأسد ؟ ! ونظروا إلى سعيد قد دمعت عيناه ، وشعث رأسه ، واغبر لونه ، ولم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ يوم لقوه وصحبوه ، فقالوا : يا خير أهل الأرض ، ليتنا لم نعرفك ، ولم نسرح إليك ، الويل لنا ويلاً طويلاً ، كيف ابتلينا بك ! اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر ، فإنه القاضي الأكبر ، والعدل الذي لا يجور . قال : ما أعذرني لكم وأرضاني لما سبق من علم الله في . فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة ، قال كفيله : أسألك بالله لما زودتنا من دعائك وكلامك ، فإنا لن نلقى مثلك أبداً . ففعل ذلك ، فخلوا سبيله ، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه وهم محتفون الليل كله ، ينادون بالويل واللهف . فلما انشق عمود الصبح ، جاءهم سعيد فقرع الباب ، فنزلوا وبكوا معه ، وذهبوا به إلى الحجاج ، وآخر معه ، فدخلا ، فقال الحجاج : أتيتموني بسعيد بن جبير ؟ قالوا نعم ، وعاينا منه العجب . فصرف بوجهه عنهم . فقال : أدخلوه عليّ . فخرج المتلمس فقال لسعيد : أستودعك الله ، وأقرأ عليك السلام . فأدخل عليه . فقال : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير ، قال : أنت شقي بن كسير . قال : بل أمي كانت أعلم باسمي منك . قال : شقيت أنت وشقيت أمك . قال : الغيب يعلمه غيرك . قال : لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى . قال : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً . قال : فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نبي الرحمة ، إمام الهدى . قال : فما قولك في علي ، في الجنة هو أم في النار ؟ قال : لو دخلتها ، فرأيت أهلها عرفت . قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل . قال : فأيهم أعجب إليك ؟ قال : أرضاهم لخالقي . قال : فأيهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عنده . قال : أبيت أن تصدقني . قال : إني لم أحب أن أكذبك . قال : فما بالك لم تضحك ؟ قال : لم تستو القلوب .
قال : ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والياقوت والزبرجد فجمعه بين يدي سعيد ، فقال : إن كنت جمعته لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح ، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، ولا خير في شيء جمع للدنيا ، إلا ما طاب وزكا . ثم دعا الحجاج بالعود والناي ، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى ، فقال الحجاج : ما يبكيك ؟ هو اللهو . قال : بل هو الحزن ، أما النفخ ، فذكرني يوم نفخ الصور ، وأما العود ، فشجرة قطعت من غير حق ، وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة .
فقال الحجاج : ويلك يا سعيد . قال : الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار . قال : اختر أي قتلة تريد أن أقتلك ، قال : اختر لنفسك يا حجاج ، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة . قال : فتريد أن أعفو عنك ؟ قال : إن كان العفو ، فمن الله ، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر . قال : اذهبوا به فاقتلوه . فلما خرج من الباب ، ضحك ، فأخبر الحجاج بذلك ، فأمر برده ، فقال : ما أضحكك ؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك ! فأمر بالنطع فبسط ، فقال : اقتلوه . فقال : " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " . قال : شدوا به لغير القبلة . قال : " فأينما تولوا فثم وجه الله " . قال : كبوه لوجهه . قال : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم " . قال : اذبحوه . قال : إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة . ثم دعا سعيد الله وقال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي . فذبح على النطع .
وبلغنا أن الحجاج عاش بعده خمس عشرة ليلة ، وقعت في بطنه الأكلة فدعا بالطبيب لينظر إليه ، فنظر إليه ، ثم دعا بلحم منتن ، فعلقه في خيط ثم أرسله في حلقه ، فتركه ساعة ثم استخرجه وقد لزق به من الدم ، فعلم أنه ليس بناج .
هذه حكاية منكرة ، غير صحيحة . رواها أبو نعيم في ( الحلية ) ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرني أبو أمية محمد بن إبراهيم كتابة ، حدثنا حامد بن يحيى .
هارون الحمال حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي ، حدثنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن كاتب الحجاج قال مالك - هو أخ لأبي سلمة الذي كان على بيت المال - قال : كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام يستخفني ويستحسن كتابتي ، وأدخل عليه بغير إذن ، فدخلت عليه يوماً بعدما قتل سعيد بن جبير وهو في قبة له ، لها أربعة أبواب ، فدخلت عليه مما يلي ظهره ، فسمعته يقول : ما لي ولسعيد بن جبير ، فخرجت رويداً وعلمت أنه إن علم بي قتلني ، فلم ينشب إلا قليلا حتى مات .
أبو حذيفة النهدي : حدثنا سفيان ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، قال : دعا سعيد بن جبير حين دعي للقتل فجعل ابنه يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة ؟
ابن حميد : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد ، قال : قحط الناس في زمان ملك من ملوك بني إسرائيل ثلاث سنين ، فقال الملك : ليرسلن علينا السماء أو لنؤذينه ، قالوا : كيف تقدر على أن تؤذيه ، وهو في السماء وأنت في الأرض ؟ قال : أقتل أولياءه من أهل الأرض فيكون ذلك أذى له . قال : فأرسل الله عليهم السماء .
وروى أصبغ بن زيد ، عن القاسم الأعرج ، قال : كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش .
وروي عن ابن شهاب ، قال : كان سعيد بن جبير يؤمنا ، يرجع صوته بالقرآن .
وروى الثوري ، عن حماد ، قال : قال سعيد : قرأت القرآن في ركعتين في الكعبة .
جرير الضبي ، عن أشعث بن إسحاق ، قال : كان يقال : سعيد بن جبير جهبذ العلماء .
ابن عيينة ، عن أبي سنان ، عن سعيد بن جبير ، قال : لدغتني عقرب ، فأقسمت عليّ أمي أن أسترقي ، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ ، وكرهت أن أحنثها .
جرير بن حازم ، عن يعلى بن حكيم ، قال : قال سعيد بن جبير : ما رأيت أرعى لحرمة هذا البيت ، ولا أحرص عليه ، من أهل البصرة ، لقد رأيت جارية ذات ليلة تعلقت بأستار الكعبة تدعو وتضرع وتبكي حتى ماتت .
المرجع
سير أعلام النبلاء - محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي
( الطبقة الثانية من التابعين )
ابن هشام ، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد ، أبو محمد ، ويقال : أبو عبد الله الأسدي الوالبي ، مولاهم الكوفي ، أحد الأعلام .
روى عن : ابن عباس فأكثر وجود ، وعن عبد الله بن مغفل ، وعائشة ، وعدي بن حاتم ، وأبي موسى الأشعري في سنن النسائي ، وأبي هريرة ، وأبي مسعود البدري - وهو مرسل - وعن ابن عمر ، وابن الزبير ، والضحاك بن قيس ، وأنس ، وأبي سعيد الخدري .
وروى عن التابعين ، مثل : أبي عبد الرحمن السلمي . وكان من كبار العلماء .
قرأ القرآن على ابن عباس . قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وطائفة .
وحدث عنه : أبو صالح السمان ، وآدم بن سليمان والد يحيى ، وأشعث بن أبي الشعثاء ، وأيوب السختياني وبكير بن شهاب ، وثابت بن عجلان ، وأبو المقدام ثابت بن هرمز ، وجعفر بن أبي المغيرة ، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية ، وحبيب بن أبي ثابت ، وحبيب بن أبي عمرة ، وحسان بن أبي الأشرس ، وحصين ، والحكم ، وحماد ، وخصيف الجزري ، وزر الهمداني ، وزيد العمي ، وسالم الأفطس ، وسلمة بن كهيل ، وسليمان بن أبي المغيرة ، وسليمان الأحول ، وسليمان الأعمش ، وسماك بن حرب ، وأبو سنان ضرار بن مرة ، وطارق بن عبد الرحمن ، وطلحة بن مصرف ، وأبو سنان طلحة بن نافع ، وأبو حريز عبد الله بن حسين ، وابنه عبد الله بن سعيد ، وعبد الله بن عثمان بن خثيم ، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى ، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي ، وعبد الكريم الجزري ، وعبد الكريم أبو أمية البصري ، وابنه عبد الملك بن سعيد ، وعبد الملك بن أبي سليمان ، وعبد الملك بن ميسرة ، وعثمان بن حكيم ، وعثمان بن أبي سليمان ، وعثمان بن قيس ، وعدي بن ثابت ، وعزرة بن عبد الرحمن ، وعطاء بن السائب ، وعكرمة بن خالد ، وعلي بن بذيمة ، وعمار الدهني ، وعمرو بن دينار ، وعمرو بن سعيد البصري ، وعمرو بن عمرو المدني ، وعمرو بن مرة ، وعمرو بن هرم ، وفرقد السبخي ، وفضيل بن عمرو الفقيمي ، والقاسم بن أبي أيوب ، والقاسم بن أبي بزة ، وكثير بن كثير بن المطلب ، وكلثوم بن جبر ، ومالك بن دينار ، ومجاهد رفيقه ، ومحمد بن سوقة ، ومحمد بن أبي محمد ، والزهري ، ومحمد بن واسع ، ومسعود بن مالك ، ومسلم البطين ، والمغيرة بن النعمان ، ومنصور بن حيان ، ومنصور بن المعتمر ، والمنهال بن عمرو ، وموسى بن أبي عائشة ، وأبو شهاب الحناط الأكبر موسى بن نافع ، وميمون بن مهران ، وهشام بن حسان ، وهلال بن خباب ، ووبرة بن عبد الرحمن ، ووهب بن مأنوس ، وأبو هبيرة يحيى بن عباد ، ويحيى بن ميمون أبو المعلى العطار ، ويعلى بن حكيم ، ويعلى بن مسلم ، وأبو إسحاق السبيعي ، وأبو حصين الأسدي ، وأبو الزبير المكي ، وأبو الصهباء الكوفي ، وأبو عون الثقفي ، وأبو هاشم الرماني ، وخلق كثير .
روى ضمرة بن ربيعة ، عن أصبغ بن زيد ، قال : كان لسعيد بن جبير ديك ، كان يقوم من الليل بصياحه ، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح ، فلم يصل سعيد تلك الليلة ، فشق عليه ، فقال : ما له قطع الله صوته ؟ فما سمع له صوت بعد . فقالت له أمه : يا بني ، لا تدع على شيء بعدها .
قال أبو الشيخ : قدم سعيد أصبهان زمن الحجاج ، وأخذوا عنه .
وعن عمر بن حبيب قال : كان سعيد بن جبير بأصبهان لا يحدث ، ثم رجع إلى الكوفة فجعل يحدث ، فقلنا له في ذلك فقال : انشر بزك حيث تعرف .
قال عطاء بن السائب : كان سعيد بن جبير بفارس ، وكان يتحزن ، يقول : ليس أحد يسألني عن شيء . وكان يبكينا ، ثم عسى أن لا يقوم حتى نضحك .
شعبة ، عن القاسم بن أبي أيوب : كان سعيد بن جبير بأصبهان ، وكان غلام مجوسي يخدمه ، وكان يأتيه بالمصحف في غلافه .
قال القاسم بن أبي أيوب : سمعت سعيداً يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله " .
أنبأنا أحمد بن أبي الخير ، عن اللبان ، أنبأنا الحداد ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا سعيد بن أبي الربيع السمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن إسحاق مولى عبد الله بن عمر ، عن هلال بن يساف ، قال : دخل سعيد بن جبير الكعبة فقرأ القرآن في ركعة .
الحسن بن صالح ، عن وقاء بن إياس ، قال : كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان ، وكانوا يؤخرون العشاء .
قلت : هذا خلاف السنة ، وقد صح النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث .
يزيد : أنبأنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين .
يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة : كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه ، يقول : أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟ يعني سعيد بن جبير .
قال ابن مهدي ، عن سفيان ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه قال : لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه .
وقال ضرار بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : التوكل على الله جماع الإيمان .
وكان يدعو : اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك ، وحسن الظن بك .
أبو عوانة ، عن هلال بن خباب ، قال : خرجت مع سعيد بن جبير في رجب ، فأحرم من الكوفة بعمرة ، ثم رجع من عمرته ، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة ، وكان يحرم في كل سنة مرتين ، مرة للحج ، ومرة للعمرة .
ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك ، فتلك الخشية ، والذكر طاعة الله ، فمن أطاع الله فقد ذكره ، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن .
وروي عن حبيب بن أبي ثابت : قال لي سعيد بن جبير : لأن أنشر علمي أحب إليّ من أن أذهب به إلى قبري .
قال هلال بن خباب : قلت لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : إذا ذهب علماؤهم .
وقال عمر بن ذر : كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتاباً أوصاه بتقوى الله وقال : إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة ، فذكر الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره .
أحمد حدثنا معتمر ، عن الفضيل بن ميسرة ، عن أبي حريز ، أن سعيد بن جبير قال : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر . تعجبه العبادة ويقول : أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة .
عباد بن العوام : أنبأنا هلال بن خباب : خرجنا مع سعيد بن جبير في جنازة ، فكان يحدثنا في الطريق ويذكرنا ، حتى بلغ ، فلما جلس ، لم يزل يحدثنا حتى قمنا ، فرجعنا ، وكان كثير الذكر لله .
وعن سعيد ، قال : وددت الناس أخذوا ما عندي ؛ فإنه مما يهمني .
أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، قال : أتيت سعيد بن جبير بمكة ، فقلت : إن هذا الرجل قادم - يعني خالد بن عبد الله - ولا آمنه عليك ، فأطعني واخرج . فقال : والله لقد فررت حتى استحييت من الله . قلت : إني لأراك كما سمتك أمك سعيداً . فقدم خالد مكة ، فأرسل إليه فأخذه .
أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا أمية بن شبل ، عن عثمان بن برذويه قال : كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة بنخيل ابن عامر ، فقال له وهب : يا أبا عبد الله ، كم لك منذ خفت من الحجاج ؟ قال : خرجت عن امرأتي وهي حامل ، فجاءني الذي في بطنها وقد خرج وجهه . فقال وهب : إن من قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عده رخاء ، وإذا أصابه رخاء عده بلاء .
قال سالم بن أبي حفصة لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال : أنا سعيد بن جبير ، قال : أنت شقي بن كسير ، لأقتلنك . قال : فإذا أنا كما سمتني أمي ، ثم قال : دعوني أصل ركعتين . قال : وجهوه إلى قبلة النصارى . قال : " فأينما تولوا فثم وجه الله " وقال : إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم . قال : وما عاذت به ؟ قال : قالت : " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً " .
رواها ابن عيينة ، عن سالم . ثم قال ابن عيينة : لم يقتل بعد سعيد إلا رجلاً واحداً .
وعن عتبة مولى الحجاج ، قال : حضرت سعيداً حين أتي به الحجاج بواسط ، فجعل الحجاج يقول : ألم أفعل بك ؟ ! ألم أفعل بك ؟ ! فيقول : بلى . قال : فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا ؟ قال : بيعة كانت عليّ - يعني لابن الأشعث - فغضب الحجاج وصفق بيديه ، وقال : فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى . وأمر به ، فضربت عنقه .
وقيل : لو لم يواجهه سعيد بن جبير بهذا ، لاستحياه كما عفا عن الشعبي لما لاطفه في الاعتذار .
حامد بن يحيى البلخي : حدثنا حفص أبو مقاتل السمرقندي ، حدثنا عون بن أبي شداد : بلغني أن الحجاج لما ذكر له سعيد بن جبير أرسل إليه قائداً يسمى المتلمس بن أحوص في عشرين من أهل الشام . فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعته ، فسألوه عنه فقال : صفوه لي ، فوصفوه فدلهم عليه ، فانطلقوا فوجدوه ساجداً يناجي بأعلى صوته ، فدنوا وسلموا ، فرفع رأسه ، فأتم بقية صلاته ، ثم رد السلام ، فقالوا : إنا رسل الحجاج إليك ، فأجبه ، قال : ولا بد من الإجابة ؟ قالوا : لا بد . فحمد الله وأثنى عليه وقام معهم حتى انتهى إلى دير الراهب ، فقال الراهب : يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم ؟ قالوا : نعم . فقال : اصعدوا ، فإن اللبؤة والأسد يأويان حول الدير . ففعلوا وأبى سعيد أن يدخل . فقالوا : ما نراك إلا وأنت تريد الهرب منا ، قال : لا ، ولكن لا أدخل منزل مشرك أبداً ، قالوا : فإنا لا ندعك ، فإن السباع تقتلك ، قال : لا ضير ، إن معي ربي يصرفها عني ويجعلها حرساً تحرسني ، قالوا : فأنت من الأنبياء ؟ قال : ما أنا من الأنبياء ، ولكن عبد من عبيد الله مذنب . قال الراهب : فليعطني ما أثق به على طمأنينة . فعرضوا على سعيد أن يعطي الراهب ما يريد ، قال : إني أعطي العظيم الذي لا شريك له ، لا أبرح مكاني حتى أصبح إن شاء الله . فرضي الراهب بذلك ، فقال لهم : اصعدوا وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح ; فإنه كره الدخول في الصومعة لمكانكم . فلما صعدوا وأوتروا القسي ، إذا هم بلبؤة قد أقبلت ، فلما دنت من سعيد ، تحككت به وتمسحت به ، ثم ربضت قريباً منه . وأقبل الأسد يصنع كذلك . فلما رأى الراهب ذلك وأصبحوا ، نزل إليه ، فسأله عن شرائع دينه ، وسنن رسوله ، ففسر له سعيد ذلك كله ، فأسلم . وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه ، ويأخذون التراب الذي وطئه فيقولون : يا سعيد ، حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق ، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه ، فمرنا بما شئت ، قال : امضوا لأمركم ، فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه ، فساروا حتى بلغوا واسطاً فقال سعيد : قد تحرمت بكم وصحبتكم ، ولست أشك أن أجلي قد حضر فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت ، وأستعد لمنكر ونكير ، وأذكر عذاب القبر ، فإذا أصبحتم فالميعاد بيننا المكان الذي تريدون . فقال بعضهم : لا تريدون أثراً بعد عين ، وقال بعضهم : قد بلغتم أمنكم واستوجبتم جوائز الأمير ، فلا تعجزوا عنه . وقال بعضهم : يعطيكم ما أعطى الراهب ، ويلكم أما لكم عبرة بالأسد ؟ ! ونظروا إلى سعيد قد دمعت عيناه ، وشعث رأسه ، واغبر لونه ، ولم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ يوم لقوه وصحبوه ، فقالوا : يا خير أهل الأرض ، ليتنا لم نعرفك ، ولم نسرح إليك ، الويل لنا ويلاً طويلاً ، كيف ابتلينا بك ! اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر ، فإنه القاضي الأكبر ، والعدل الذي لا يجور . قال : ما أعذرني لكم وأرضاني لما سبق من علم الله في . فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة ، قال كفيله : أسألك بالله لما زودتنا من دعائك وكلامك ، فإنا لن نلقى مثلك أبداً . ففعل ذلك ، فخلوا سبيله ، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه وهم محتفون الليل كله ، ينادون بالويل واللهف . فلما انشق عمود الصبح ، جاءهم سعيد فقرع الباب ، فنزلوا وبكوا معه ، وذهبوا به إلى الحجاج ، وآخر معه ، فدخلا ، فقال الحجاج : أتيتموني بسعيد بن جبير ؟ قالوا نعم ، وعاينا منه العجب . فصرف بوجهه عنهم . فقال : أدخلوه عليّ . فخرج المتلمس فقال لسعيد : أستودعك الله ، وأقرأ عليك السلام . فأدخل عليه . فقال : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير ، قال : أنت شقي بن كسير . قال : بل أمي كانت أعلم باسمي منك . قال : شقيت أنت وشقيت أمك . قال : الغيب يعلمه غيرك . قال : لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى . قال : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً . قال : فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نبي الرحمة ، إمام الهدى . قال : فما قولك في علي ، في الجنة هو أم في النار ؟ قال : لو دخلتها ، فرأيت أهلها عرفت . قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل . قال : فأيهم أعجب إليك ؟ قال : أرضاهم لخالقي . قال : فأيهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عنده . قال : أبيت أن تصدقني . قال : إني لم أحب أن أكذبك . قال : فما بالك لم تضحك ؟ قال : لم تستو القلوب .
قال : ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والياقوت والزبرجد فجمعه بين يدي سعيد ، فقال : إن كنت جمعته لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح ، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، ولا خير في شيء جمع للدنيا ، إلا ما طاب وزكا . ثم دعا الحجاج بالعود والناي ، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى ، فقال الحجاج : ما يبكيك ؟ هو اللهو . قال : بل هو الحزن ، أما النفخ ، فذكرني يوم نفخ الصور ، وأما العود ، فشجرة قطعت من غير حق ، وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة .
فقال الحجاج : ويلك يا سعيد . قال : الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار . قال : اختر أي قتلة تريد أن أقتلك ، قال : اختر لنفسك يا حجاج ، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة . قال : فتريد أن أعفو عنك ؟ قال : إن كان العفو ، فمن الله ، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر . قال : اذهبوا به فاقتلوه . فلما خرج من الباب ، ضحك ، فأخبر الحجاج بذلك ، فأمر برده ، فقال : ما أضحكك ؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك ! فأمر بالنطع فبسط ، فقال : اقتلوه . فقال : " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " . قال : شدوا به لغير القبلة . قال : " فأينما تولوا فثم وجه الله " . قال : كبوه لوجهه . قال : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم " . قال : اذبحوه . قال : إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة . ثم دعا سعيد الله وقال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي . فذبح على النطع .
وبلغنا أن الحجاج عاش بعده خمس عشرة ليلة ، وقعت في بطنه الأكلة فدعا بالطبيب لينظر إليه ، فنظر إليه ، ثم دعا بلحم منتن ، فعلقه في خيط ثم أرسله في حلقه ، فتركه ساعة ثم استخرجه وقد لزق به من الدم ، فعلم أنه ليس بناج .
هذه حكاية منكرة ، غير صحيحة . رواها أبو نعيم في ( الحلية ) ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرني أبو أمية محمد بن إبراهيم كتابة ، حدثنا حامد بن يحيى .
هارون الحمال حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي ، حدثنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن كاتب الحجاج قال مالك - هو أخ لأبي سلمة الذي كان على بيت المال - قال : كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام يستخفني ويستحسن كتابتي ، وأدخل عليه بغير إذن ، فدخلت عليه يوماً بعدما قتل سعيد بن جبير وهو في قبة له ، لها أربعة أبواب ، فدخلت عليه مما يلي ظهره ، فسمعته يقول : ما لي ولسعيد بن جبير ، فخرجت رويداً وعلمت أنه إن علم بي قتلني ، فلم ينشب إلا قليلا حتى مات .
أبو حذيفة النهدي : حدثنا سفيان ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، قال : دعا سعيد بن جبير حين دعي للقتل فجعل ابنه يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة ؟
ابن حميد : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد ، قال : قحط الناس في زمان ملك من ملوك بني إسرائيل ثلاث سنين ، فقال الملك : ليرسلن علينا السماء أو لنؤذينه ، قالوا : كيف تقدر على أن تؤذيه ، وهو في السماء وأنت في الأرض ؟ قال : أقتل أولياءه من أهل الأرض فيكون ذلك أذى له . قال : فأرسل الله عليهم السماء .
وروى أصبغ بن زيد ، عن القاسم الأعرج ، قال : كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش .
وروي عن ابن شهاب ، قال : كان سعيد بن جبير يؤمنا ، يرجع صوته بالقرآن .
وروى الثوري ، عن حماد ، قال : قال سعيد : قرأت القرآن في ركعتين في الكعبة .
جرير الضبي ، عن أشعث بن إسحاق ، قال : كان يقال : سعيد بن جبير جهبذ العلماء .
ابن عيينة ، عن أبي سنان ، عن سعيد بن جبير ، قال : لدغتني عقرب ، فأقسمت عليّ أمي أن أسترقي ، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ ، وكرهت أن أحنثها .
جرير بن حازم ، عن يعلى بن حكيم ، قال : قال سعيد بن جبير : ما رأيت أرعى لحرمة هذا البيت ، ولا أحرص عليه ، من أهل البصرة ، لقد رأيت جارية ذات ليلة تعلقت بأستار الكعبة تدعو وتضرع وتبكي حتى ماتت .
المرجع
سير أعلام النبلاء - محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي