ريمة مطهر
02-13-2011, 12:24 AM
المغيرة بن شعبة
رضي الله عنه
نسبه
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي ( أبو عبد الله ) . من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة والدهاء . كان ضخم القامة ، عبل الذراعين ، بعيد ما بين المنكبين ، أصهب الشعر جعده وكان لا يفرقه .
وعن الزهري قال : قالت عائشة : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المغيرة بن شعبة ينظر إليها ، فذهبت عينه .
حاله في الجاهلية ثم إسلامه
- عن المغيرة بن شعبة قال : إنّ أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّي أمشي أنا وأبو جهل ، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل : يا أبا الحكم هلّم إلى الله وإلى رسوله ، أدعوك إلى الله ، فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سبّ آلهتنا ، هل تريد إلاّ أن نشهد أن قد بلّغت ، فو الله لو أنّي أعلم أن ما تقول حق ما اتّبعتك ، فانصرف رسول الله صلى اله عليه وسلم وأقبل عليّ فقال: والله إنّ لأعلم أنّ ما يقول حق ، ولكن بنو قصيّ قالوا : فينا الحجابة ، فقلنا : نعم ، فقالوا : فينا النّدوة ، قلنا ، نعم ، ثم قالوا : فينا اللّواء ، فقلنا : نعم ، وقالوا : فينا السّقاية ، فقلنا : نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منّا نبيّ ، والله لا أفعل .
- وروى الواقدي : عن محمد بن يعقوب بن عتبة ، عن أبيه وعن جماعة قالوا : قال المغيرة بن شعبة : كنا متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات ، فأراني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم . فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس وإهداء هدايا له ، فأجمعت الخروج معهم ، فاستشرت عمي عروة بن مسعود ، فنهاني ، وقال : ليس معك من بني أبيك أحد ، فأبيت ، وسرت معهم ، وما معهم من الأحلاف غيري ؛ حتى دخلنا الإسكندرية ، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر ، فركبت زورقاً حتى حاذيت مجلسه ، فأنكرني ، وأمر من يسألني ، فأخبرته بأمرنا وقدومنا ، فأمر أن ننزل في الكنيسة ، وأجرى علينا ضيافة ، ثم أدخلنا عليه ، فنظر إلى رأس بني مالك ، فأدناه ، وأجلسه معه ، ثم سأله ، أكلكم من بني مالك ؟ قال : نعم ، سوى رجل واحد ، فعرَّفه بي . فكنت أهون القوم عليه ، وسُرَّ بهداياهم ، وأعطاهم الجوائز ، وأعطاني شيئاً لا ذكر له . وخرجنا ، فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم ، ولم يعرض علي أحد منهم مواساة ، وخرجوا ، وحملوا معهم الخمر ، فكنا نشرب ، فأجمعت على قتلهم ، فتمارضت ، وعصبت رأسي ، فوضعوا شرابهم ، فقلت: رأسي يُصدع ولكني أسقيكم ، فلم ينكروا ، فجعلت أصرف لهم ، وأترع لهم الكأس ، فيشربون ولا يدرون ، حتى ناموا سكراً ، فوثبت ، وقتلتهم جميعاً ، وأخذت ما معهم . فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأجده جالساً في المسجد مع أصحابه ، وعليّ ثياب سفري ، فسلمت ، فعرفني أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي هداك للإسلام ، قال أبو بكر : أمن مصر أقبلتم ؟ قلت : نعم ، قال : ما فعل المالكيون ؟ قلت: قتلتهم ، وأخذت أسلابهم ، وجئت بها إلى رسول اللة ليخمسها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إسلامك فنقبله ، ولا آخذ من أموالهم شيئاً ؛ لأن هذا غدر ، ولا خير في الغدر " فأخذني ما قرب وما بعد ( أصابني خوف أو حزن ) ، وقلت : إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ، ثم أسلمت الساعة ، قال : " فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله " .
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
أقام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى اعتمر عمرة الحديبية ، فكانت أول سفرة خرجت معه فيها . وكنت أكون مع الصديق وألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يلزمه .
أهم ملامح شخصيته
ـ كان يقال له : ( مغيرة الرأي ) ، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق . وقال الشعبي : كان من دهاة العرب ؛ وكذا ذكره الزهري .
- وقال قبيصة بن جابر : صحبت المغيرة ؛ فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها ، وولاه عمر البصرة ، ففتح ميسان ، وهمذان ، وعدة بلاد إلى أن عزله لمَّا شهد عليه أبو بكرة ومن معه .
- ومن دهاء المغيرة بن شعبة أنه لما شكا أهل الكوفة عماراً ، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب ، فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة ، وقال له : لا تذكره لأحد . فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير ، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر، ففعلت ، فقالت : نعم ما حييتني به . فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له : بارك الله لك فيمن وليت ! وأخبره الخبر فعزله وولى المغيرة بن شعبة الكوفة ، فلم يزل عليها حتى مات عمر .
- ويقول المغيرة بن شعبة لم يخدعني غير غلام من بني الحرث بن كعب فإني ذكرت امرأة منهم لأتزوجها ، فقال : أيها الأمير لا خير لك فيها ! فقلت : ولم ؟ قال : رأيت رجلاً يقبلها . فاعرض عنها فتزوجها الفتى ، فلمته وقلت : ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها ؟ قال : نعم ، رأيت أباها يقبلها .
بعض المواقف من حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ يقول المغيرة بن شعبة : بعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه ، فأتاه ، فكلمه ، وجعل يمس لحيته ، وأنا قائم على رأس رسول الله مقنع في الحديد ، فقال المغيرة لعروة : كُفَّ يدك قبل أن لا تصل إليك ، فقال : من ذا يا محمد ؟ ما أَفَظَّه وأغلظه ، قال : ابن أخيك ، فقال : يا غدر ، والله ما غسلت عني سوءتك إلا بالأمس .
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع عمر
حسين بن حفص ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين ، فكرهوه ، فعزله عمر فخافوا أن يرده . فقال دهقانهم : إن فعلتم ما آمركم لم يرده علينا . قالوا : مرنا . قال : تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر فأقول : إن المغيرة اختان هذا ، فدفعه إليّ . قال : فجمعوا له مائة ألف ، وأتى عمر ، فقال ذلك . فدعا المغيرة ، فسأله ، قال : كذب أصلحك الله ، إنما كانت مائتي ألف ، قال : فما حملك على هذا ؟ قال : العيال والحاجة . فقال عمر للعِلْج : ما تقول ؟ قال : لا والله لأصدقنك ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً . فقال عمر للمغيرة : ما أردت إلى هذا ؟ قال : الخبيث كذب عليّ ، فأحببت أن أخزيه .
مع علي
قال المغيرة بن شعبة لعلي حين قتل عثمان : اقعد في بيتك ولا تدع إلى نفسك ، فإنك لو كنت في جحر بمكة لم يبايعوا غيرك . وقال لعلي : إن لم تطعني في هذه الرابعة ،لأعتزلنك ، ابعث إلى معاوية عهده ، ثم أخلعه بعد . فلم يفعل ، فاعتزله المغيرة باليمن . فلما شغل علي ومعاوية فلم يبعثوا إلى الموسم أحداً ؛ جاء المغيرة ، فصلى بالناس ، ودعا لمعاوية .
مع معاوية
يقول الزهري : دعا معاوية عمرو بن العاص بالكوفة ، فقال : أعني على الكوفة ، قال : كيف بمصر ؟ قال : أستعمل عليها ابنك عبد الله بن عمرو . قال : فنِعْمَ . فبينا هم على ذلك جاء المغيرة بن شعبة - وكان معتزلاً بالطائف - فناجاه معاوية . فقال المغيرة : تؤمر عَمْراً على الكوفة ، وابنه على مصر ، وتكون كالقاعد بين لحيي الأسد . قال : ما ترى ؟ قال : أنا أكفيك الكوفة . قال : فافعل . فقال معاوية لعمرو حين أصبح : إني قد رأيت كذا ، ففهم عمرو ، فقال : ألا أدلك على أمير الكوفة ؟ قال : بلى ، قال: المغيرة ، واستغن برأيه وقوته عن المكيدة ، واعزله عن المال ، قد كان قبلك عمر وعثمان ففعلا ذلك ، قال : نعم ما رأيت . فدخل عليه المغيرة ، فقال : إني كنت أمرتك على الجند والأرض ، ثم ذكرت سُنة عمر وعثمان قبلي ، قال : قد قبلت .
موقفه مع رجل من الأنصار
كان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني ، فقتل ، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلى ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغزل ، فصرخ بأعلى صوته : يا معشر العرب ، إن ثقيفاً لا تختتن . فقال له المغيرة بن شعبة : لا تقل هذا ، إنما هو غلامٌ نصراني ، وأراه قتلى ثقيف مختتنين .
موقفه مع أبي بكرة
كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة ، وكانا متجاورين بينهما طريق ، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى ، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته ، فهبت الريح ففتحت باب الكوة ، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة ، فقال للنفر : قوموا فانظروا . فقاموا فنظروا ، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه ، وهو أخو أبي بكرة لأمه ، وشبل بن معبد البجلي ، فقال لهم : اشهدوا ، قالوا : ومن هذه ؟ قال : أم جميل بن الأفقم ، وكانت من بني عامر بن صعصعة ، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف ، وكان بعض النساء يفعلنّ ذلك في زمانها ، فلما قامت عرفوها . فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك ، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة ، فقال : أعني بعده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به . قال له : خذ من أحببت . فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً ، منهم : أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة ، وهو أوجز كتاب وأبلغه : ( أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً ، فسلم إليه ما في يدك والعجل ) . فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة . ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود ، فقدموا على عمر ، فقال له المغيرة : سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني ؟ أمستقبلهم أم مستدبرهم ؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها ؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إليّ في منزلي على امرأتي ؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها . فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين ، وشهد شبل ونافع مثل ذلك . وأما زياد فإنه قال : رأيته جالساً بين رجلي امرأة ، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً . قال : هل رأيت كالميل في المكحلة ؟ قال : لا . قال : هل تعرف المرأة ؟ قال : لا ، ولكن أشبهها . قال : فتنح . وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد . فقال المغيرة : اشفني من الأعبد. قال : اسكت أسكت الله نأمتك ، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك .
موقفه مع قومه ثقيف
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف وفداً ، وأمّر عليهم خالد بن الوليد ، وفيهم المغيرة . فلما قدموا عمدوا اللات ليهدموها ، واستكفت ثقيف كلها ، حتى خرج العواتق ، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة . فقام المغيرة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه : والله لأضحكنكم منهم . فضرب بالكرزين ، ثم سقط يركض . فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة ، وقالوا : أبعد الله المغيرة ، قد قتلته الربة . وفرحوا ، وقالوا : من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها ، فو الله لا يستطاع أبداً . فوثب المغيرة بن شعبة فقال : قبحكم الله ؛ إنما هي لكاع حجارة ومدر ، فأقبلوا عافية الله واعبدوه . ثم ضرب الباب فكسره ، ثم علا على سورها ، وعلا الرجال معه ، فهدموها. وجعل صاحب المفتح يقول : ليغضبنّ الأساس ، فليخسفنّ بهم . فقال المغيرة لخالد : دعني أحفر أساسها ، فحفره حتى أخرجوا ترابها ، وانتزعوا حليتها ، وأخذوا ثيابها . فبهتت ثقيف ، فقالت عجوز منهم : أسلمها الرضاع وتركوا المصاع . وأقبل الوفد حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها ، فقسمه .
أثره في الآخرين
أرسل رستم إلى سعد بن أبي وقاص أن أبعث إلينا برجل نكلمه فكان فيمن بعثه المغيرة بن شعبة ، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها ، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره ، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه ، وقال : قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أسفه منكم ، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعضٍ ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحدٌ ، وإني لم آتكم ولكم دعوتموني اليوم ، علمت أنكم مغلبون وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول . فقالت السفلة : صدق والله العربي . وقالت الدهاقين : والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه ، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة ! ثم تكلم رستم ، فحمد قومه وعظّم أمرهم وقال : لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافاً في الأمم ، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا ، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب ، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا ، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمراً منكم ، كنتم أهل قشفٍ ومعيشةٍ لا نراكم شيئاً ، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم ، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم ، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا ، فإني لست أشتهي أن أقتلكم .
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن الله خالق كل شيء ورازقه ، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه ، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه ، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم ، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره ، والله ابتلانا به والدنيا دولٌ ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما تتابع علينا مستجلباً من الله رحمةً يرفه بها عنا ؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً . ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال ، وقال له : وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم ، فقالوا : لا صبر لنا عنه . فقال رستم : إذاً تموتون دونها . فقال المغيرة : يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار ، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم .
فاستشاط رستم غضباً ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصبح غداً حتى نقتلكم أجمعين . وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال : أين هؤلاء منكم ! هؤلاء والله الرجال ، صادقين كانوا أم كاذبين ، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم ، ولئن كانوا صادقين فيما يقوم لهؤلاء شيء ! فلجوا وتجلدوا . وقال : والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ، وإن هذا منكم رثاء . فازدادوا لجاجة .فأرسل رستم رسولاً خلف المغيرة وقال له : إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غداً ، فأعلمه الرسول ذلك ، فقال المغيرة : بشرتني بخير وأجر ، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت . فرجع إلى رستم فأخبره . فقال : أطيعوني يا أهل فارس ، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم .
ـ وكان أول من وضع ديوان البصرة كما قال البغوي .
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم
ـ أخبر عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وأنه ذهب لحاجة له ، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ ، فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين .
ـ وعن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال : أملى على المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .
ـ وعن المغيرة بن شعبة قال : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم ، فقال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله " .
ـ وعن الشعبي قال : سمعت المغيرة بن شعبة يخبر به الناس على المنبر قال سفيان : رفعه أحدهما ( أراه ابن أبجر ) قال : سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة ؟ فيقول : أي رب ، كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ! فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا ! فيقول : رضيت رب . فيقول : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله . فقال في الخامسة : رضيت رب . فيقول : هذا لك ، وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك . فيقول : رضيت رب . قال : رب فأعلاهم منزلة ! قال : أولئك الذين أردت ، غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر . قال : ومصداقه في كتاب الله عز وجل " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " الآية .
بعض كلماته
- قال المغيرة بن شعبة : من أخَّر حاجة رجلٍ فقد ضَمِنها إن المعرفةَ لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصؤل ، فكيف بالرجل الكريم ؟
- خطب المغيرة بن شعبة في حضرة رستم : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله خالق كل شيء ورازقه ، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه والذي له ، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولسنا ننكره ، فالله صنعة بكم ووضعه فيكم وهوله دونكم ، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب ، فنحن نعرفه ، ولسنا ننكره ، والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ، ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر كان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلباً من الله رحمة يرفه بها عنا ، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه أو كنتم تعرفوننا به ، إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً ، ثم ذكر مثل الكلام الأول . قال المغيرة بن شعبة : أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك ، فإنه لا بقاء للنعم إذا كفرت ، ولا زوال لها إذا شكرت .
موقف الوفاة
توفي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالكوفة سنة خمسين للهجرة وهو ابن سبعين سنة .
المراجع
سير أعلام النبلاء - تاريخ الإسلام - الكامل في التاريخ - المستطرف - مجمع الأمثال - فتح الباري بشرح صحيح البخاري - صحيح مسلم بشرح النووي - جمهرة خطب العرب
رضي الله عنه
نسبه
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي ( أبو عبد الله ) . من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة والدهاء . كان ضخم القامة ، عبل الذراعين ، بعيد ما بين المنكبين ، أصهب الشعر جعده وكان لا يفرقه .
وعن الزهري قال : قالت عائشة : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المغيرة بن شعبة ينظر إليها ، فذهبت عينه .
حاله في الجاهلية ثم إسلامه
- عن المغيرة بن شعبة قال : إنّ أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّي أمشي أنا وأبو جهل ، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل : يا أبا الحكم هلّم إلى الله وإلى رسوله ، أدعوك إلى الله ، فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سبّ آلهتنا ، هل تريد إلاّ أن نشهد أن قد بلّغت ، فو الله لو أنّي أعلم أن ما تقول حق ما اتّبعتك ، فانصرف رسول الله صلى اله عليه وسلم وأقبل عليّ فقال: والله إنّ لأعلم أنّ ما يقول حق ، ولكن بنو قصيّ قالوا : فينا الحجابة ، فقلنا : نعم ، فقالوا : فينا النّدوة ، قلنا ، نعم ، ثم قالوا : فينا اللّواء ، فقلنا : نعم ، وقالوا : فينا السّقاية ، فقلنا : نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منّا نبيّ ، والله لا أفعل .
- وروى الواقدي : عن محمد بن يعقوب بن عتبة ، عن أبيه وعن جماعة قالوا : قال المغيرة بن شعبة : كنا متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات ، فأراني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم . فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس وإهداء هدايا له ، فأجمعت الخروج معهم ، فاستشرت عمي عروة بن مسعود ، فنهاني ، وقال : ليس معك من بني أبيك أحد ، فأبيت ، وسرت معهم ، وما معهم من الأحلاف غيري ؛ حتى دخلنا الإسكندرية ، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر ، فركبت زورقاً حتى حاذيت مجلسه ، فأنكرني ، وأمر من يسألني ، فأخبرته بأمرنا وقدومنا ، فأمر أن ننزل في الكنيسة ، وأجرى علينا ضيافة ، ثم أدخلنا عليه ، فنظر إلى رأس بني مالك ، فأدناه ، وأجلسه معه ، ثم سأله ، أكلكم من بني مالك ؟ قال : نعم ، سوى رجل واحد ، فعرَّفه بي . فكنت أهون القوم عليه ، وسُرَّ بهداياهم ، وأعطاهم الجوائز ، وأعطاني شيئاً لا ذكر له . وخرجنا ، فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم ، ولم يعرض علي أحد منهم مواساة ، وخرجوا ، وحملوا معهم الخمر ، فكنا نشرب ، فأجمعت على قتلهم ، فتمارضت ، وعصبت رأسي ، فوضعوا شرابهم ، فقلت: رأسي يُصدع ولكني أسقيكم ، فلم ينكروا ، فجعلت أصرف لهم ، وأترع لهم الكأس ، فيشربون ولا يدرون ، حتى ناموا سكراً ، فوثبت ، وقتلتهم جميعاً ، وأخذت ما معهم . فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأجده جالساً في المسجد مع أصحابه ، وعليّ ثياب سفري ، فسلمت ، فعرفني أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي هداك للإسلام ، قال أبو بكر : أمن مصر أقبلتم ؟ قلت : نعم ، قال : ما فعل المالكيون ؟ قلت: قتلتهم ، وأخذت أسلابهم ، وجئت بها إلى رسول اللة ليخمسها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إسلامك فنقبله ، ولا آخذ من أموالهم شيئاً ؛ لأن هذا غدر ، ولا خير في الغدر " فأخذني ما قرب وما بعد ( أصابني خوف أو حزن ) ، وقلت : إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ، ثم أسلمت الساعة ، قال : " فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله " .
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته
أقام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى اعتمر عمرة الحديبية ، فكانت أول سفرة خرجت معه فيها . وكنت أكون مع الصديق وألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يلزمه .
أهم ملامح شخصيته
ـ كان يقال له : ( مغيرة الرأي ) ، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق . وقال الشعبي : كان من دهاة العرب ؛ وكذا ذكره الزهري .
- وقال قبيصة بن جابر : صحبت المغيرة ؛ فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها ، وولاه عمر البصرة ، ففتح ميسان ، وهمذان ، وعدة بلاد إلى أن عزله لمَّا شهد عليه أبو بكرة ومن معه .
- ومن دهاء المغيرة بن شعبة أنه لما شكا أهل الكوفة عماراً ، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب ، فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة ، وقال له : لا تذكره لأحد . فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير ، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر، ففعلت ، فقالت : نعم ما حييتني به . فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له : بارك الله لك فيمن وليت ! وأخبره الخبر فعزله وولى المغيرة بن شعبة الكوفة ، فلم يزل عليها حتى مات عمر .
- ويقول المغيرة بن شعبة لم يخدعني غير غلام من بني الحرث بن كعب فإني ذكرت امرأة منهم لأتزوجها ، فقال : أيها الأمير لا خير لك فيها ! فقلت : ولم ؟ قال : رأيت رجلاً يقبلها . فاعرض عنها فتزوجها الفتى ، فلمته وقلت : ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها ؟ قال : نعم ، رأيت أباها يقبلها .
بعض المواقف من حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ يقول المغيرة بن شعبة : بعثت قريش عام الحديبية عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه ، فأتاه ، فكلمه ، وجعل يمس لحيته ، وأنا قائم على رأس رسول الله مقنع في الحديد ، فقال المغيرة لعروة : كُفَّ يدك قبل أن لا تصل إليك ، فقال : من ذا يا محمد ؟ ما أَفَظَّه وأغلظه ، قال : ابن أخيك ، فقال : يا غدر ، والله ما غسلت عني سوءتك إلا بالأمس .
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع عمر
حسين بن حفص ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين ، فكرهوه ، فعزله عمر فخافوا أن يرده . فقال دهقانهم : إن فعلتم ما آمركم لم يرده علينا . قالوا : مرنا . قال : تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر فأقول : إن المغيرة اختان هذا ، فدفعه إليّ . قال : فجمعوا له مائة ألف ، وأتى عمر ، فقال ذلك . فدعا المغيرة ، فسأله ، قال : كذب أصلحك الله ، إنما كانت مائتي ألف ، قال : فما حملك على هذا ؟ قال : العيال والحاجة . فقال عمر للعِلْج : ما تقول ؟ قال : لا والله لأصدقنك ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً . فقال عمر للمغيرة : ما أردت إلى هذا ؟ قال : الخبيث كذب عليّ ، فأحببت أن أخزيه .
مع علي
قال المغيرة بن شعبة لعلي حين قتل عثمان : اقعد في بيتك ولا تدع إلى نفسك ، فإنك لو كنت في جحر بمكة لم يبايعوا غيرك . وقال لعلي : إن لم تطعني في هذه الرابعة ،لأعتزلنك ، ابعث إلى معاوية عهده ، ثم أخلعه بعد . فلم يفعل ، فاعتزله المغيرة باليمن . فلما شغل علي ومعاوية فلم يبعثوا إلى الموسم أحداً ؛ جاء المغيرة ، فصلى بالناس ، ودعا لمعاوية .
مع معاوية
يقول الزهري : دعا معاوية عمرو بن العاص بالكوفة ، فقال : أعني على الكوفة ، قال : كيف بمصر ؟ قال : أستعمل عليها ابنك عبد الله بن عمرو . قال : فنِعْمَ . فبينا هم على ذلك جاء المغيرة بن شعبة - وكان معتزلاً بالطائف - فناجاه معاوية . فقال المغيرة : تؤمر عَمْراً على الكوفة ، وابنه على مصر ، وتكون كالقاعد بين لحيي الأسد . قال : ما ترى ؟ قال : أنا أكفيك الكوفة . قال : فافعل . فقال معاوية لعمرو حين أصبح : إني قد رأيت كذا ، ففهم عمرو ، فقال : ألا أدلك على أمير الكوفة ؟ قال : بلى ، قال: المغيرة ، واستغن برأيه وقوته عن المكيدة ، واعزله عن المال ، قد كان قبلك عمر وعثمان ففعلا ذلك ، قال : نعم ما رأيت . فدخل عليه المغيرة ، فقال : إني كنت أمرتك على الجند والأرض ، ثم ذكرت سُنة عمر وعثمان قبلي ، قال : قد قبلت .
موقفه مع رجل من الأنصار
كان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني ، فقتل ، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلى ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغزل ، فصرخ بأعلى صوته : يا معشر العرب ، إن ثقيفاً لا تختتن . فقال له المغيرة بن شعبة : لا تقل هذا ، إنما هو غلامٌ نصراني ، وأراه قتلى ثقيف مختتنين .
موقفه مع أبي بكرة
كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة ، وكانا متجاورين بينهما طريق ، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى ، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته ، فهبت الريح ففتحت باب الكوة ، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة ، فقال للنفر : قوموا فانظروا . فقاموا فنظروا ، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه ، وهو أخو أبي بكرة لأمه ، وشبل بن معبد البجلي ، فقال لهم : اشهدوا ، قالوا : ومن هذه ؟ قال : أم جميل بن الأفقم ، وكانت من بني عامر بن صعصعة ، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف ، وكان بعض النساء يفعلنّ ذلك في زمانها ، فلما قامت عرفوها . فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك ، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة ، فقال : أعني بعده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به . قال له : خذ من أحببت . فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً ، منهم : أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر ، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة ، وهو أوجز كتاب وأبلغه : ( أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً ، فسلم إليه ما في يدك والعجل ) . فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة . ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود ، فقدموا على عمر ، فقال له المغيرة : سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني ؟ أمستقبلهم أم مستدبرهم ؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها ؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إليّ في منزلي على امرأتي ؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها . فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين ، وشهد شبل ونافع مثل ذلك . وأما زياد فإنه قال : رأيته جالساً بين رجلي امرأة ، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً . قال : هل رأيت كالميل في المكحلة ؟ قال : لا . قال : هل تعرف المرأة ؟ قال : لا ، ولكن أشبهها . قال : فتنح . وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد . فقال المغيرة : اشفني من الأعبد. قال : اسكت أسكت الله نأمتك ، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك .
موقفه مع قومه ثقيف
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف وفداً ، وأمّر عليهم خالد بن الوليد ، وفيهم المغيرة . فلما قدموا عمدوا اللات ليهدموها ، واستكفت ثقيف كلها ، حتى خرج العواتق ، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة . فقام المغيرة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه : والله لأضحكنكم منهم . فضرب بالكرزين ، ثم سقط يركض . فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة ، وقالوا : أبعد الله المغيرة ، قد قتلته الربة . وفرحوا ، وقالوا : من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها ، فو الله لا يستطاع أبداً . فوثب المغيرة بن شعبة فقال : قبحكم الله ؛ إنما هي لكاع حجارة ومدر ، فأقبلوا عافية الله واعبدوه . ثم ضرب الباب فكسره ، ثم علا على سورها ، وعلا الرجال معه ، فهدموها. وجعل صاحب المفتح يقول : ليغضبنّ الأساس ، فليخسفنّ بهم . فقال المغيرة لخالد : دعني أحفر أساسها ، فحفره حتى أخرجوا ترابها ، وانتزعوا حليتها ، وأخذوا ثيابها . فبهتت ثقيف ، فقالت عجوز منهم : أسلمها الرضاع وتركوا المصاع . وأقبل الوفد حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها ، فقسمه .
أثره في الآخرين
أرسل رستم إلى سعد بن أبي وقاص أن أبعث إلينا برجل نكلمه فكان فيمن بعثه المغيرة بن شعبة ، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها ، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره ، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه ، وقال : قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أسفه منكم ، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعضٍ ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحدٌ ، وإني لم آتكم ولكم دعوتموني اليوم ، علمت أنكم مغلبون وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول . فقالت السفلة : صدق والله العربي . وقالت الدهاقين : والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه ، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة ! ثم تكلم رستم ، فحمد قومه وعظّم أمرهم وقال : لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافاً في الأمم ، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا ، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب ، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا ، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمراً منكم ، كنتم أهل قشفٍ ومعيشةٍ لا نراكم شيئاً ، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم ، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم ، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا ، فإني لست أشتهي أن أقتلكم .
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن الله خالق كل شيء ورازقه ، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه ، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه ، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم ، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره ، والله ابتلانا به والدنيا دولٌ ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما تتابع علينا مستجلباً من الله رحمةً يرفه بها عنا ؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً . ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال ، وقال له : وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم ، فقالوا : لا صبر لنا عنه . فقال رستم : إذاً تموتون دونها . فقال المغيرة : يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار ، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم .
فاستشاط رستم غضباً ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصبح غداً حتى نقتلكم أجمعين . وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال : أين هؤلاء منكم ! هؤلاء والله الرجال ، صادقين كانوا أم كاذبين ، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم ، ولئن كانوا صادقين فيما يقوم لهؤلاء شيء ! فلجوا وتجلدوا . وقال : والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ، وإن هذا منكم رثاء . فازدادوا لجاجة .فأرسل رستم رسولاً خلف المغيرة وقال له : إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غداً ، فأعلمه الرسول ذلك ، فقال المغيرة : بشرتني بخير وأجر ، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت . فرجع إلى رستم فأخبره . فقال : أطيعوني يا أهل فارس ، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم .
ـ وكان أول من وضع ديوان البصرة كما قال البغوي .
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم
ـ أخبر عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وأنه ذهب لحاجة له ، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ ، فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين .
ـ وعن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال : أملى على المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .
ـ وعن المغيرة بن شعبة قال : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم ، فقال الناس : كسفت الشمس لموت إبراهيم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله " .
ـ وعن الشعبي قال : سمعت المغيرة بن شعبة يخبر به الناس على المنبر قال سفيان : رفعه أحدهما ( أراه ابن أبجر ) قال : سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة ؟ فيقول : أي رب ، كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ! فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا ! فيقول : رضيت رب . فيقول : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله . فقال في الخامسة : رضيت رب . فيقول : هذا لك ، وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك . فيقول : رضيت رب . قال : رب فأعلاهم منزلة ! قال : أولئك الذين أردت ، غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر . قال : ومصداقه في كتاب الله عز وجل " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " الآية .
بعض كلماته
- قال المغيرة بن شعبة : من أخَّر حاجة رجلٍ فقد ضَمِنها إن المعرفةَ لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصؤل ، فكيف بالرجل الكريم ؟
- خطب المغيرة بن شعبة في حضرة رستم : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله خالق كل شيء ورازقه ، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه والذي له ، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولسنا ننكره ، فالله صنعة بكم ووضعه فيكم وهوله دونكم ، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب ، فنحن نعرفه ، ولسنا ننكره ، والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ، ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر كان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلباً من الله رحمة يرفه بها عنا ، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه أو كنتم تعرفوننا به ، إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً ، ثم ذكر مثل الكلام الأول . قال المغيرة بن شعبة : أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك ، فإنه لا بقاء للنعم إذا كفرت ، ولا زوال لها إذا شكرت .
موقف الوفاة
توفي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالكوفة سنة خمسين للهجرة وهو ابن سبعين سنة .
المراجع
سير أعلام النبلاء - تاريخ الإسلام - الكامل في التاريخ - المستطرف - مجمع الأمثال - فتح الباري بشرح صحيح البخاري - صحيح مسلم بشرح النووي - جمهرة خطب العرب