ريمة مطهر
02-10-2011, 09:45 PM
جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه
( الطيّار )
نسبه
هو جعفر بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو علي بن أبي طالب لأبويه وهو جعفر الطيّار، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، أسلم قديماً وهاجر الهجرتين ، ولد رضي الله عنه في مكة المكرمة سنة 34 قبل الهجرة .
زوجته
كانت أسماء بنت عميس رضي الله عنها تحت جعفر ابن أبي طالب وهاجرت معه إلى الحبشة ، وولدت هناك عبد الله بن جعفر ، ومحمد بن جعفر ، وعون بن جعفر ، وهلك عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قُتل يوم مؤتة بمؤتة من أرض الروم فخلف عليها بعده أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر بالبيداء .
أولاده
وكان لجعفر من الولد (عبد الله ) وبه كان يُكنى ، وله العقب من ولد ( جعفر ) و ( محمد وعون ) لا عقب لهما ، ولدوا جميعاً لجعفر بأرض الحبشة في المهاجر إليها .عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه قال : ولد جعفر بن أبي طالب عبد الله وعون ومحمد بنو جعفر ، وأخواهم لأمهم يحيى بن علي بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر ، وأمهم ( الخثعمية ) أسماء بنت عميس .
المؤاخاة
قال ابن إسحاق : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وبين جعفر بن أبي طالب .
إسلامه
عن يزيد بن رومان قال : أسلم جعفر بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ويدعو فيها .
فقد أسلم بعد إسلام أخيه علي بن أبي طالب بقليل . وروي أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه يُصليان ، وعلي عن يمينه فقال لجعفر رضي الله عنه : " صل جناح ابن عمك وصل عن يساره " .
قيل : أسلم بعد واحد وثلاثين إنساناً وكان هو الثاني والثلاثين ؛ قاله ابن إسحاق وله هجرتان : هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة .
وقال ابن إسحاق : أسلم بعد خمسة وعشرين رجلاً ، وقيل : بعد واحد وثلاثين .
أهم ملامح شخصيته
خير الناس وأبو المساكين
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس كانوا يقولون : أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير ولا يخدمني فلان ولا فلانة ، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع وإن كنت لأستقرىء الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيُطعمني ، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيُطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها ، وقد كناه النبي صلى الله عليه وسلم ( بأبي المساكين ) لأنه كان يُلازمهم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه . هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .
ذو الجناحين وطيّار الجنة
عن الشعبي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلّم على ابن جعفر قال : السلام عليك يا ابن ذي الجناحين .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أريت جعفراً ملكاً يطير بجناحيه في الجنة .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : لما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر داخله من ذلك فأتاه جبريل فقال : إن الله تعالى جعل لجعفر جناحين مُضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة . قال في المستدرك : هذا حديث له طرق عن البراء ولم يخرجاه .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام ثم قال : يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سَلَمُوا علينا فردي عليهم السلام ، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث أو أربع فقال : لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثاً وسبعين بين رمية وطعنة وضربة ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت ، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت ، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت وآكل من ثمارها ما شئت . فقالت أسماء : هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير ولكن أخاف أن لا يُصدق الناس ، فاصعد المنبر فأخبر به . فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس إن جعفر مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه ، سلم عليّ ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعفر لقيهم فلذلك سُمي ( الطيّار في الجنة ) .
من أهل السفينة والهجرتين
عن أبي موسى رضي الله عنه قال : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما ( أبو بردة ) والآخر ( أبو رهم ) إما قال : في بضع ، وإما قال : في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي ، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً ، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر وكان أناس من الناس يقولون لنا ( يعني لأهل السفينة ) : سبقناكم بالهجرة . ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس . قال عمر : آلحبشية هذه ، آلبحرية هذه . قالت أسماء : نعم . قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم . فغضبت وقالت : كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه . فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا . قال : فما قلت له ؟ قالت : قلت له كذا وكذا . قال : ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان . قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني إرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو بردة : قالت أسماء فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني .
وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : ... وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ومعه امرأته أسماء بنت عميس فلم يزل بأرض الحبشة حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم هاجر إليه وهو بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ، قال : وكان جعفر يكنى ( أبا عبد الله ) .
شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن علي رضوان الله عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي .
ويُقال : إن الذين كانوا يشبهون برسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ، والحسن بن علي بن أبي طالب ، و قثم بن العباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف .
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر قال : وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة فلما قدم اعتنقه وقّبل بين عينيه ثم قال : ألا أهب لك ، ألا أبشرك ، ألا أمنحك ، ألا أتحفك . قال : نعم يا رسول الله . قال : تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة ثم تقول بعد القراءة وأنت قائم قبل الركوع : ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله خمس عشرة مرة ) ، ثم تركع فتقولهنّ عشراً تمام هذه الركعة قبل أن تبتدئ بالركعة الثانية تفعل في الثلاث ركعات كما وصفت لك حتى تتم أربع ركعات . هذا إسناد صحيح لا غبار عليه ، ومما يُستدل به على صحة هذا الحديث استعمال الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا هذا إياه ومواظبتهم عليه وتعليمهنّ الناس منهم :عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه .
وعن جابر بن عبد الله قال : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أدري بأيهما أنا أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر . قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وعن ابن بريدة عن أبيه قال : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني بأعجب شيء رأيته بأرض الحبشة ؟ قال : مرت امرأة على رأسها مكتل فيه طعام فمر بها رجل على فرس فأصابها فرمى به ، فجعلت أنظر إليها وهي تعيده في مكتلها وهي تقول : ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فقال : كيف تقدس أمة لا تأخذ لضعيفها من شديدها حقه وهو غير متعتع .
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع أخيه علي وزيد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي : يا عم يا عم ، فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنه : دونك ابنة عمك ، فاحتملتها . فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها ، فكل أدلى بحجة . فقال علي رضي الله عنه : أنا أحق بها وهي ابنة عمي . وقال زيد : ابنة أخي . وقال جعفر بن أبي طالب : ابنة عمي وخالتها تحتي ( يعني أسماء بنت عميس ) . فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال : " الخالة بمنزلة الأم " . وقال لعلي رضي الله عنه : " أنت مني وأنا منك " . وقال لجعفر رضي الله عنه : " أشبهت خلقي وخلقي " . وقال لزيد رضي الله عنه : " أنت أخونا ومولانا " .
وعن عكرمة عن بن عباس قال : إن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة فلما قدم رسول الله كلًم علي النبي فقال : علام تترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهري المشركين . فلم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها فخرج بها ، فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين فقال : أنا أحق بها ابنة أخي . فلما سمع بذلك جعفر بن أبي طالب قال : الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي ( أسماء بنت عميس ) . فقال علي : ألا أراكم تختصمون في ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين وليس لكم إليها نسب دوني وأنا أحق بها منكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحكم بينكم . أما أنت يا زيد فمولى الله ورسوله ، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي ، وأما أنت يا جعفر فشبيه خلقي وخلقي ، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها ، فقضى بها لجعفر . قال محمد بن عمر : فقام جعفر فحجل حول رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا جعفر؟ فقال : يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله . فقيل للنبي : تزوجها . فقال : ابنة أخي من الرضاعة . فزوجها رسول الله سلمة بن أبي سلمة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : هل جزيت سلمة .
بعض المواقف من حياته مع التابعين
مع النجاشي
عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار ( النجاشي ) آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم ، فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع ( عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ) وأمروهما أمرهم وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم . ثم قدّموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يُسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت : فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم : أنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم ، إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له : أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم . قال : فغضب النجاشي ثم قال : لا ها الله أيم الله إذاً لا أُسلمهم إليهما ولا أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه . قالوا : نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا ، كائن في ذلك ما هو كائن .
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، قال : ( فعّدد عليه أمور الإسلام ) فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قالت فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء . قالت : فقال له جعفر : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ . فقرأ عليه صدراً من كهيعص قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا فو الله لا أُسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد . قالت أم سلمة : فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لأنبئنهم غداً عيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم . قالت : فقال له عبد الله بن أبى ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا . قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد . قالت : ثم غدا عليه الغد فقال له : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه . قالت : فأرسل إليهم يسألهم عنه . قالت : ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن .
فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم . فقال له جعفر بن أبى طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال : ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود . فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال : وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي و( السيوم الآمنون ) من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ، فما أحب أن لي دبراً ذهباً وإني آذيت رجلاً منكم و ( الدبر بلسان الحبشة الجبل ) ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد عليّ ملكي ، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه . قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار . قالت : فو الله إنا على ذلك إذ نزل به يعنى (من ينازعه في ملكه) قالت : فو الله ما علمنا حزناً قط كان أشد من حزن حزناه .
عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه . قالت : وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر . قالت فقال الزبير بن العوام : أنا . قالت : وكان من أحدث القوم سناً . قالت : فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم . قالت : ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة .
أثره في الآخرين
هاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه .
وقد أسلم على يديه ملك الحبشة النجاشي وعدد من أهلها ، وكان له في الحبشة موقف متميز دافع فيه عن الإسلام دفاعاً مؤثراً أمام النجاشي عندما جاء عمرو بن العاص على رأس وفد من قريش يطلب إخراج المسلمين منها ، فاقتنع النجاشي عند ذلك بالإسلام ، ورفض طلب القرشيين ، وأعلن إسلامه وحمى المسلمين في بلاده .
بعض كلماته
عن ابن إسحاق في قصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله في غزوة مؤتة قال وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة باردة شرابها
والروم روم قد دنا عذابها علي أن لاقيتها ضرابها
موقف الوفاة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قُتل زيد فجعفر ، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة . قال عبد الله : كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية .
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وبن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : أخذ الراية زيد فأُصيب ، ثم أخذ جعفر فأُصيب ، ثم أخذ بن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم .
وعن بن أبي هلال قال وأخبرني نافع أن بن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره يعني ( في ظهره ) .
وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : ضرب جعفر بن أبي طالب رجل من الروم فقطعه بنصفين فوقع إحدى نصفيه في كرم ، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضع وثلاثون جرحاً .
وعن عائشة رضي اله عنها قالت : لما جاء قتل بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن قالت عائشة : وأنا أطلع من صائر الباب تعني ( من شق الباب ) فأتاه رجل فقال : أي رسول الله إن نساء جعفر قالت : وذكر بكاءهنّ فأمره أن ينهاهنّ ، قال فذهب الرجل ثم أتى فقال : قد نهيتهنّ وذكر أنهنّ لم يُطعنه قال : فأمر أيضاً . فذهب ثم أتى فقال : والله لقد غلبننا . فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فاحث في أفواههنّ من التراب قالت عائشة : فقلت : أرغم الله أنفك فو الله ما أنت تفعل وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء .
وعن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت : أصبحت في اليوم الذي أُصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هيأت أربعين منيئاً من أدم وعجنت عجيني وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أسماء أين بنو جعفر ؟ فجئت به إليهم فضمهم إليه وشمهم ثم ذرفت عيناه فبكى فقلت : أي رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء . فقال : نعم ، قتل اليوم . قالت : فقمت أصيح واجتمع إليّ النساء قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أسماء لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً . قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول : وا عماه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على مثل جعفر فلتبك الباكية . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم .
وذكر عن عبد الله بن جعفر أنه قال : أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي وعيناه تهريقان الدموع حتى تقطر لحيته ثم قال : " اللهم إن جعفر قدم إلى أحسن الثواب فأخلفه في ذريته أحسن ما خلفت أحداً من عبادك الصالحين في ذريته " .
ورَثَتْهُ زوجته أسماء فقالت :
يا جعفر الطيار خير مصرف للخيل يوم تطاعن وشياح
قد كنت لي جبلا ألوذ بظله فتركتني أمشي بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لي أمشي البراز وأنت كنت جناحي
وإذا دعت قمرية شجنا لها يوما على فنن بكيت صباحي
فاليوم أخشع للذليل وأتقي منه وأدفع ظالمي بالراح
وقال حسان بن ثابت لما بلغه قتل عبد الله بن رواحة يرثي أهل مؤتة من قصيدة :
رأيت خيار المؤمنين تواردو ... شعوب وقد خلفت ممن يؤخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعو ... بمؤنة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعو ... جميعا وأسباب المنية تخطر
ويقول فيه :
وكنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء وأمرا صارما حيث يؤمر
فلا زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا تزول ومفخر
المراجع
أسد الغابة – الاستيعاب – تهذيب الكمال - المعجم الكبير - الطبقات الكبرى – الإصابة – صحيح البخاري وغيره
( الطيّار )
نسبه
هو جعفر بن أبي طالب واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو علي بن أبي طالب لأبويه وهو جعفر الطيّار، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، أسلم قديماً وهاجر الهجرتين ، ولد رضي الله عنه في مكة المكرمة سنة 34 قبل الهجرة .
زوجته
كانت أسماء بنت عميس رضي الله عنها تحت جعفر ابن أبي طالب وهاجرت معه إلى الحبشة ، وولدت هناك عبد الله بن جعفر ، ومحمد بن جعفر ، وعون بن جعفر ، وهلك عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قُتل يوم مؤتة بمؤتة من أرض الروم فخلف عليها بعده أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر بالبيداء .
أولاده
وكان لجعفر من الولد (عبد الله ) وبه كان يُكنى ، وله العقب من ولد ( جعفر ) و ( محمد وعون ) لا عقب لهما ، ولدوا جميعاً لجعفر بأرض الحبشة في المهاجر إليها .عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه قال : ولد جعفر بن أبي طالب عبد الله وعون ومحمد بنو جعفر ، وأخواهم لأمهم يحيى بن علي بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر ، وأمهم ( الخثعمية ) أسماء بنت عميس .
المؤاخاة
قال ابن إسحاق : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وبين جعفر بن أبي طالب .
إسلامه
عن يزيد بن رومان قال : أسلم جعفر بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ويدعو فيها .
فقد أسلم بعد إسلام أخيه علي بن أبي طالب بقليل . وروي أن أبا طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه يُصليان ، وعلي عن يمينه فقال لجعفر رضي الله عنه : " صل جناح ابن عمك وصل عن يساره " .
قيل : أسلم بعد واحد وثلاثين إنساناً وكان هو الثاني والثلاثين ؛ قاله ابن إسحاق وله هجرتان : هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة .
وقال ابن إسحاق : أسلم بعد خمسة وعشرين رجلاً ، وقيل : بعد واحد وثلاثين .
أهم ملامح شخصيته
خير الناس وأبو المساكين
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس كانوا يقولون : أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير ولا يخدمني فلان ولا فلانة ، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع وإن كنت لأستقرىء الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيُطعمني ، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيُطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها ، وقد كناه النبي صلى الله عليه وسلم ( بأبي المساكين ) لأنه كان يُلازمهم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه . هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه .
ذو الجناحين وطيّار الجنة
عن الشعبي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلّم على ابن جعفر قال : السلام عليك يا ابن ذي الجناحين .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أريت جعفراً ملكاً يطير بجناحيه في الجنة .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : لما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر داخله من ذلك فأتاه جبريل فقال : إن الله تعالى جعل لجعفر جناحين مُضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة . قال في المستدرك : هذا حديث له طرق عن البراء ولم يخرجاه .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام ثم قال : يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سَلَمُوا علينا فردي عليهم السلام ، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث أو أربع فقال : لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثاً وسبعين بين رمية وطعنة وضربة ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت ، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت ، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت وآكل من ثمارها ما شئت . فقالت أسماء : هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير ولكن أخاف أن لا يُصدق الناس ، فاصعد المنبر فأخبر به . فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس إن جعفر مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه ، سلم عليّ ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعفر لقيهم فلذلك سُمي ( الطيّار في الجنة ) .
من أهل السفينة والهجرتين
عن أبي موسى رضي الله عنه قال : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما ( أبو بردة ) والآخر ( أبو رهم ) إما قال : في بضع ، وإما قال : في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي ، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً ، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر وكان أناس من الناس يقولون لنا ( يعني لأهل السفينة ) : سبقناكم بالهجرة . ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء : من هذه ؟ قالت : أسماء بنت عميس . قال عمر : آلحبشية هذه ، آلبحرية هذه . قالت أسماء : نعم . قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم . فغضبت وقالت : كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف ، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه . فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا . قال : فما قلت له ؟ قالت : قلت له كذا وكذا . قال : ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان . قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني إرسالاً يسألونني عن هذا الحديث ، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو بردة : قالت أسماء فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني .
وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : ... وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ومعه امرأته أسماء بنت عميس فلم يزل بأرض الحبشة حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم هاجر إليه وهو بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ، قال : وكان جعفر يكنى ( أبا عبد الله ) .
شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن علي رضوان الله عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي .
ويُقال : إن الذين كانوا يشبهون برسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ، والحسن بن علي بن أبي طالب ، و قثم بن العباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف .
بعض المواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر قال : وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة فلما قدم اعتنقه وقّبل بين عينيه ثم قال : ألا أهب لك ، ألا أبشرك ، ألا أمنحك ، ألا أتحفك . قال : نعم يا رسول الله . قال : تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة ثم تقول بعد القراءة وأنت قائم قبل الركوع : ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله خمس عشرة مرة ) ، ثم تركع فتقولهنّ عشراً تمام هذه الركعة قبل أن تبتدئ بالركعة الثانية تفعل في الثلاث ركعات كما وصفت لك حتى تتم أربع ركعات . هذا إسناد صحيح لا غبار عليه ، ومما يُستدل به على صحة هذا الحديث استعمال الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا هذا إياه ومواظبتهم عليه وتعليمهنّ الناس منهم :عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه .
وعن جابر بن عبد الله قال : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أدري بأيهما أنا أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر . قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وعن ابن بريدة عن أبيه قال : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني بأعجب شيء رأيته بأرض الحبشة ؟ قال : مرت امرأة على رأسها مكتل فيه طعام فمر بها رجل على فرس فأصابها فرمى به ، فجعلت أنظر إليها وهي تعيده في مكتلها وهي تقول : ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فقال : كيف تقدس أمة لا تأخذ لضعيفها من شديدها حقه وهو غير متعتع .
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع أخيه علي وزيد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي : يا عم يا عم ، فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنه : دونك ابنة عمك ، فاحتملتها . فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها ، فكل أدلى بحجة . فقال علي رضي الله عنه : أنا أحق بها وهي ابنة عمي . وقال زيد : ابنة أخي . وقال جعفر بن أبي طالب : ابنة عمي وخالتها تحتي ( يعني أسماء بنت عميس ) . فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال : " الخالة بمنزلة الأم " . وقال لعلي رضي الله عنه : " أنت مني وأنا منك " . وقال لجعفر رضي الله عنه : " أشبهت خلقي وخلقي " . وقال لزيد رضي الله عنه : " أنت أخونا ومولانا " .
وعن عكرمة عن بن عباس قال : إن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة فلما قدم رسول الله كلًم علي النبي فقال : علام تترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهري المشركين . فلم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها فخرج بها ، فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين فقال : أنا أحق بها ابنة أخي . فلما سمع بذلك جعفر بن أبي طالب قال : الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي ( أسماء بنت عميس ) . فقال علي : ألا أراكم تختصمون في ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين وليس لكم إليها نسب دوني وأنا أحق بها منكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحكم بينكم . أما أنت يا زيد فمولى الله ورسوله ، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي ، وأما أنت يا جعفر فشبيه خلقي وخلقي ، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها ، فقضى بها لجعفر . قال محمد بن عمر : فقام جعفر فحجل حول رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا جعفر؟ فقال : يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله . فقيل للنبي : تزوجها . فقال : ابنة أخي من الرضاعة . فزوجها رسول الله سلمة بن أبي سلمة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : هل جزيت سلمة .
بعض المواقف من حياته مع التابعين
مع النجاشي
عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار ( النجاشي ) آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم ، فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع ( عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ) وأمروهما أمرهم وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم . ثم قدّموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يُسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت : فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم : أنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم ، إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له : أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم . قال : فغضب النجاشي ثم قال : لا ها الله أيم الله إذاً لا أُسلمهم إليهما ولا أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه . قالوا : نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا ، كائن في ذلك ما هو كائن .
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟ قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، قال : ( فعّدد عليه أمور الإسلام ) فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قالت فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء . قالت : فقال له جعفر : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه عليّ . فقرأ عليه صدراً من كهيعص قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا فو الله لا أُسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد . قالت أم سلمة : فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لأنبئنهم غداً عيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم . قالت : فقال له عبد الله بن أبى ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا . قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد . قالت : ثم غدا عليه الغد فقال له : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه . قالت : فأرسل إليهم يسألهم عنه . قالت : ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض : ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ؟ قالوا : نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن .
فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم . فقال له جعفر بن أبى طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . قالت : فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال : ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود . فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال : وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي و( السيوم الآمنون ) من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ، فما أحب أن لي دبراً ذهباً وإني آذيت رجلاً منكم و ( الدبر بلسان الحبشة الجبل ) ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد عليّ ملكي ، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه . قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار . قالت : فو الله إنا على ذلك إذ نزل به يعنى (من ينازعه في ملكه) قالت : فو الله ما علمنا حزناً قط كان أشد من حزن حزناه .
عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه . قالت : وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر . قالت فقال الزبير بن العوام : أنا . قالت : وكان من أحدث القوم سناً . قالت : فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم . قالت : ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة .
أثره في الآخرين
هاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه .
وقد أسلم على يديه ملك الحبشة النجاشي وعدد من أهلها ، وكان له في الحبشة موقف متميز دافع فيه عن الإسلام دفاعاً مؤثراً أمام النجاشي عندما جاء عمرو بن العاص على رأس وفد من قريش يطلب إخراج المسلمين منها ، فاقتنع النجاشي عند ذلك بالإسلام ، ورفض طلب القرشيين ، وأعلن إسلامه وحمى المسلمين في بلاده .
بعض كلماته
عن ابن إسحاق في قصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله في غزوة مؤتة قال وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة باردة شرابها
والروم روم قد دنا عذابها علي أن لاقيتها ضرابها
موقف الوفاة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قُتل زيد فجعفر ، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة . قال عبد الله : كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية .
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وبن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : أخذ الراية زيد فأُصيب ، ثم أخذ جعفر فأُصيب ، ثم أخذ بن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم .
وعن بن أبي هلال قال وأخبرني نافع أن بن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره يعني ( في ظهره ) .
وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : ضرب جعفر بن أبي طالب رجل من الروم فقطعه بنصفين فوقع إحدى نصفيه في كرم ، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضع وثلاثون جرحاً .
وعن عائشة رضي اله عنها قالت : لما جاء قتل بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن قالت عائشة : وأنا أطلع من صائر الباب تعني ( من شق الباب ) فأتاه رجل فقال : أي رسول الله إن نساء جعفر قالت : وذكر بكاءهنّ فأمره أن ينهاهنّ ، قال فذهب الرجل ثم أتى فقال : قد نهيتهنّ وذكر أنهنّ لم يُطعنه قال : فأمر أيضاً . فذهب ثم أتى فقال : والله لقد غلبننا . فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فاحث في أفواههنّ من التراب قالت عائشة : فقلت : أرغم الله أنفك فو الله ما أنت تفعل وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء .
وعن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت : أصبحت في اليوم الذي أُصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هيأت أربعين منيئاً من أدم وعجنت عجيني وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أسماء أين بنو جعفر ؟ فجئت به إليهم فضمهم إليه وشمهم ثم ذرفت عيناه فبكى فقلت : أي رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء . فقال : نعم ، قتل اليوم . قالت : فقمت أصيح واجتمع إليّ النساء قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أسماء لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً . قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول : وا عماه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على مثل جعفر فلتبك الباكية . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم .
وذكر عن عبد الله بن جعفر أنه قال : أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي وعيناه تهريقان الدموع حتى تقطر لحيته ثم قال : " اللهم إن جعفر قدم إلى أحسن الثواب فأخلفه في ذريته أحسن ما خلفت أحداً من عبادك الصالحين في ذريته " .
ورَثَتْهُ زوجته أسماء فقالت :
يا جعفر الطيار خير مصرف للخيل يوم تطاعن وشياح
قد كنت لي جبلا ألوذ بظله فتركتني أمشي بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لي أمشي البراز وأنت كنت جناحي
وإذا دعت قمرية شجنا لها يوما على فنن بكيت صباحي
فاليوم أخشع للذليل وأتقي منه وأدفع ظالمي بالراح
وقال حسان بن ثابت لما بلغه قتل عبد الله بن رواحة يرثي أهل مؤتة من قصيدة :
رأيت خيار المؤمنين تواردو ... شعوب وقد خلفت ممن يؤخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعو ... بمؤنة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعو ... جميعا وأسباب المنية تخطر
ويقول فيه :
وكنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء وأمرا صارما حيث يؤمر
فلا زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا تزول ومفخر
المراجع
أسد الغابة – الاستيعاب – تهذيب الكمال - المعجم الكبير - الطبقات الكبرى – الإصابة – صحيح البخاري وغيره