شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : العلم والإيمان


جمانة كتبي
06-28-2014, 08:22 PM
العلم والإيمان




أفضل ما اكتسبته النفوس، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } [الروم: 56]. وقوله: { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11]. وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه، والمؤهلون للمراتب العالية.

ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعة، وفي حقيقتهما. حتى إن كل طائفة تظنُّ أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تُنال السعادة، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع، بل قد سدُّوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على مناهجهم وآثارهم.
فكل طائفة اعتقدت أن العلم ما مها وفرحت به { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون: 53]. وأكثر ما عندهم كلام وآراء وخرص، والعلم وراء الكلام كما قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر والعلم في تقدم أكثر!. ففرَّق هذا الراسخ بين العلم والكلام. فالكتب كثيرة جدًا، والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة، والعلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه، قال تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ } [آل عمران: 61].
وقال: { وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ } [البقرة: 120].
وقال في القرآن: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166] أي وفيه عِلمُه.

ولما بعُد العهد بهذا العلم آلَ الأمر بكثيرٍ من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علمًا، ووضعوا فيها الكتب، وأنفقوا فيها الأنفاس، فضيَّعوا فيها الزمان، وملأوا بها الصحف مدادًا، والقلوب سوادًا، حتى صرَّح كثيرٌ من الناس من الناس منهم أنه ليس في القرآن والسنة علم، وأن أدلتهما لفظية لا تفيد لفظية لا تفيد يقينًا ولا علمًا. وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم، وأذّن بها بين أظهرهم حتى أسمعهم دانيهم لقاصيهم؛ فانسلخت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحيَّة من قشرها، والثوب عن لابسه.

ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن، فقال له: لو حفظت القرآن أولًا كان أولى، فقال: وهل في القرآن علم!.
وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أنَّ مَن كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:


نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبطحاء أبعد منزِلِ



وقال لي شيخنا – يعني ابن تيمية رحمهم الله جميعًا – في وصف هؤلاء: إنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخسِّ المطالب، ويكفيك دليلًا على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله، ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض، قال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. وهذا يدلُّ على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف، وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده، وكيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الأفكار دينًا يُدان به ويُحكم به على الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، سبحانك هذا بهتان عظيم!.

وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم، ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد أحسن القائل:


العلمُ قال الله قال رسولُه .... قال الصحابةُ ليس بالتمويهِ


ما العلمُ نَصبَك للخلاف سفاهةً .... بين الرسول وبين رأي فقيهِ


كلا ولا جَحْدَ الصفات ونَفيَها .... حذرًا من التمثيلِ والتشبيهِ





انظر: كتاب [ الفوائد | لابن قيِّـم الجوزية – رحمه الله ]


ط المكتبة العصرية / 1432هـ ، ص131-133.