م.أديب الحبشي
01-24-2011, 09:56 AM
البناء في جدة القديمة
تعتبر قصة العمارة في مدينة "جدة القديمة" ملحمة جمالية خالدة ذات عناصر متميزة ودلالات حاضرة عن مدى عراقة هذا المجتمع وما يتمتع به أبناؤه من براعة الصنعة وحس ذوقي رفيع . . كما مثلت جاه موطناً من مواطن الثراء الفني لأعمال الزخرفة والأساليب الفنية للخشب بالحجاز. ويمثل الشكل المعماري لمدينة جدة القديمة محصلة لتراث معماري عريق . .
ولئن روى بعض المؤرخين قديماً أن بدايات جدة كانت مجرد قرية لصيادين تضم أكواخاً مبنية من جذوع الأشجار وأسقفها من سعف النخيل - وهكذا تكون بدايات المدن على السواحل عموما - غير أن جدة التي عشناها في طفولتنا ومطلع شبابنا ما بين حواريها الأربع قد تكون ملامح لوحتها عبر مات السنين بريشة أبناؤها الخلص . . فارتبطت عمارتها ببيتها وحركة الواقع والإمكانات والتقاليد المحلية . .
وفى وصفه لها في رحلته الحجازية عام 1327هـ ذكر محمد لبيب البتنوني . . أن جدة تبدوا للقادم من البحر على مسافة ساعتين بيضاء ناصعة . وفى جنوبها قرية صغيره تسمى النزلة كلها أكواخ ويسكنها البداة الأعراب . كما تقع قرب المدينة جزيرتان : جزيرة "سعد" وجزيرة "سعيد" ويقع فيهما الحجر الصحي لثغر الحجاز . . كما وصف مساكن جدة بأنها أشبه بمساكن مصر في عهد المماليك تحتوى على غرف كبيرة واسعة ذات سقوف عالية ولها شبابيك طويلة وعريضة على شكل المشربيات تسمى "الرواشين".
أما الرحالة اللبناني الأمير/ شكيب ارسلان ، فقد زار جدة عام 1348هـ وجاء في كتابه ( الإرتسامات اللطاف في خاطر الحج إلى أقدس المطاف ) وصف دقيق للشكل الهندسي العمراني لمباني جدة ومساكنها وما مر بها عبر العصور. .
فذكر المهندس محمد سعيد فارسي " أمين مدينة جدة السابق" بأن التراث المعماري لمدينة جدة قد تأثر من قبل حضارتين مجاورتين هما : إمبراطورية الفرس الساسانيين التي تعود إليها الفضل في تكون المخطط المنسق للمنطقة التاريخية ، ونظم تخزين المياه والآبار. . والحضارة الثانية إمبراطورية العثمانيين الأتراك . .
فبيوت جدة داخل السور وحتى السبعينات من القرن الرابع عشر الهجري نجدها متراصة في أغلبها بحيث يركز بعضها بعضاً ويظلل بعضها بعضاً للتخفيف من حرارة الشمس ، فتخطيط المدينة القديم يتمشى مع حاجة السكان والظروف الجغرافية والمناخية من حرارة أو برودة أو أشعة الشمس الحارقة . .
الأمر الذي تتقارب معه المساكن وتضيق الطرقات لتوفير مناطق مظللة ، وتجديد حركة الهواء ، وهي متعددة الطوابق وأعلاها لا يتجاوز خمس طوابق كما سجلت ذلك أيضا كافة كتب المؤرخين والزوار . . وتختلف واجهاتها التي يغلب عليها واجهة واحدة أو واجهتين والقليل منها أكثر من واجهتين ، وتحدد الواجهات حجم وعدد الرواشين بكل بيت . . والمعروف أن الشبابيك تعتبر منفذاً للهواء والتنفس والفرجة والمراقبة . وكان السكان يضعون فيها شراب الماء ( قلل ) على قاعدة خشبية مخصصة تسمى "المرفع" والبعض يضع فيها مراكن "أصص" من الفخار أو التوتوه وبها شيء من الزرع والورد البلدي لينعش المجلس .
وكلما كانت الرواشين أكبر بورزا كلما تخللها أكبر قدر من الهواء . . وأذكر أنني حينا كنت طفلاً كنت أقضي أجمل الأوقات مستمتعاً بالنظر من الشيش لمشاهدة ما يدور في الشارع كما أتذكر أننا كنا حينما تشتد حرارة الجو نقوم بتبليل الشراشف بالماء وننشرها في الشبابيك لتلطيف الهواء من خلالها .
ويحدد المهندس / محمد سعيد فارسي ، أمين بلدية جدة السابق في رسالة الدكتوراه التي قدمها عن جدة عناصر البناء المستخدمة في بيوت جدة القديمة ومصادرها . فيذكر : أن أحجار البناء كانت عادة من حجر الكاشور، وهو الحجر المنقبي "الحجر الجيري المرجاني" الذي كان يستخرج من الرصيف الصخري المرجاني الضحل لساحل البحر الأحمر في موقعين هما : شمال بحر الأربعين "النقبة" وعند شاطئ الرويس "حي الرويس حالياً" حيث كانت الملاحات لاستخراج ملح الطعام .
كما يذكر المهندس الفارسي أن بديل الأسمنت كان الطين الأسود اللزج المستخرج من قاع بحر الأربعين "بحر الطين" كما كان يستخرج أيضا نوع قوي من الحجر الرفادي يعرف بالحجر البحري وكان يستخدم في بناء البديل . .
أما الأخشاب فكانت من أخشاب شجر "الدوم" التي كانت تود من الطائف و "العرعر" من عسير و "أخشاب النخيل والزان والجاوى وغيرها التي استخدمت في أعمال الشبابيك والأبواب واللوحات الزخرفية والتأسيسية والمناور" أو من شجر "القندل" أو خشب "التيل" وهي من الأخشاب التي ترد مع سفن الحجاج والبضائع القادمة من جنوب شرق آسيا وتستخدم هذه الأخشاب عادة وخاصة الأخير منها في التسقيف سواءً كألواح أو عوارض ، كذلك في صناعة الرواشين والنوافذ وبعض الأثاث الداخلي مثل صناديق "السيسم" أو "السحارات" أو "الركالة".
وعن مبادئ العمارة لبيوت جدة القديمة يؤكد المهندس الفارسي بأنها كانت تماثل المبادئ العصرية وأسسها النظرية رغم فارق الإمكانات.
فالبيت كان يقوم على أساس إنشائي سليم حيث كان يقوم في أوله من المركز ببناء حائطين متقابلين يترك بينهما فراغ يملأ بالأحجار والطين أسلوب بناء سور جدة وكان هذان الحائطان يعرفان بـ ( فحل الدرج ) وعلى الفحل بقية حوائط البيت التي تبنى من الحجر المنقبي والطين وكسر الحجر الصغير ( الحشو) .
وكانت الحوائط تبنى على مراحل . أو بتر بارتفاع حوالي متر واحد يفصلها أو يدعمها ويقويها هيكل متصل من الخشب يتم به ضبط المناسيب الأفقية والرأسية للحوائط والواجهات حتى لا تميل مع الارتفاع وهو أسلوب يتفق مع الأساس النظري للمباني العصرية التي تبنى فيها أولاً نواة من الخرسانة المسلحة تستخدم كبئر للمصعد ويرتبط به هيكل مترابط من الكرات الصلب بهيئة العمود الفقري والضلوع إذ يمثل بئر السلم العمود الفقري للإنسان فيما يمثل الحوائط والكرات التي تشكل وتربط باقي البيت ضلوع القفص الصدري . .
وحتى تخف الأحمال على هذا العمود الفقري كانت واجهات المباني في معظمها تترك مفتوحة دون بناء فيها ثم تغطى بنوافذ خشبية عريضة وكبيرة أو رواشين .
على أن الإبداع الفني في جدة لم يقتصر على جانب هندسة البناء والتخطيط المدني وإنما ارتفع إلى جانب الحس الفني المتمثل في التصاميم الفنية البديعة لواجهات البيوت والنقوش المستوحاة من فنون الخط العربي وفروع النباتات والتشكيلات المثلثية والمربعات المتداخلة المعروفة في المساجد والقصور والدور الكبيرة في أنحاء العالم العربي والإسلامي القدم في الشام ومصر وتونس والمغرب وتركيا وبخارى والهند وسمرقند وتركستان وغيرها من الولايات الإسلامية في جنوب ووسيا .
وكانت هذه النقوش تظهر أكثر في واجهات الدور وفوق أبوابها ومداخلها بالجبس والجير وفي أبوابها وفتحات "ملاقف الهواء" وفي رواشينها من الخشب المشغول والمنحوت وفي صوالين الضيوف في الديوان والمجلس في الحوائط والأسقف وفي النوافذ الخشبية العريضة والعالية حفراً على الخشب وتنسيقا فنياً بديعاً لأطره . . كما تجد هذه اللمسات في حوائط الأسطح من الخارج سواءً الخشبي منها أو الجبسي .
وقد قال زائر إنجليزي لجدة قبل قرابة قرن من الزمان في وصفه لمباني جده : لقد كان الفن ليس مجرد زينة يتفاخر بها الأغنياء ، ولكنه عصب حياة ، وعنصر هام لا غنى عنه في نسيجها الإنساني وبائها الحضاري .
ولا شك أن ظواهر هذا الفن الباقية في بيوتها والمتصلة في حاضرها ، الممتدة إلى مظلات مستقبلها لدليل عميق الجذور على حقيقة هذه الملاحظة.
وحول مراحل تشييد المباني بجده فان العمل يبدأ أولاً بمد الخيوط وحفر الأساسات ودكها بالحجر ثم يبدأ البناء حتى يبلغ السقف فيضع العيدان . . ثم يسلم السقف للنجارين فيسقفونه بالجريد وسعف الخيل المشغول ثم بالتراب المبلل ، ثم التراب الجاف ، ثم النوره بدل البلاط ، ويكتفي غير المقتدرين بفرش التراب ويوضع فوقه "الخسف" . . أما السلالم فتبدأ بـ "فحل السلم" وهو جدار قوي وسميك يبدأ من أساس البيت حتى آخر دور وتربط به بشكل دائري عيدان السلم فيكون هو الذي يحمل الدرج ، وكلما ارتفع البيت كلما قلت سماكة الجدار .
وتوجد بعض البيوت المبنية على نظام أكثر حداثة وأخذت من نظام البناء التركي- فالسلالم مثلاً "نظام السلامليك" أي ما يعرف ( قلبة الدرج ) مثل بيت "جوخدار" وبيت "نصيف" . . بينما النظام الشائع يسمى ( المنائرى ) اى ما يشبه طريقة بناء منائر المساجد الدرج الدائري حول عود ثابت من الحجر.
والطريف أنهم كانوا يبنون البيت بدون درج حتى يكتمل البناء ثم يشرعون في بناء السلام إثباتاً لمقدرتهم الفائقة . وكانت البيوت القديمة تعمر مئات السنين . .
وفى سلم الدرج وعند كل طابق توجد ( البسطه ) وهى مساحة عريضة ولها باب كبير يفصل بين الطابقين . . وعادة يوجد بها شباك صغير لتسريب الضوء والهواء . وقد جرت العادة أن توضع في الشباك مساءاً ( اللمبه التنك ) ، أي الصفيح التي تعبأ بالغاز وتركب بها فتيلة بحيث يصبح الجزء الرئيسي منها مسقى بالغاز وتوصل بعجله من الصفيح لخفض الضوء أو زيادته . ويعبأ الغاز بـ "المحقن" وهو أداة القياس لضبط وبيع السوائل – آنذاك – .
ولعلي أذكر واحداً من أجمل بيوت جدة القديمة والذي كنت أتمنى لو تمت المحافظة عليه وكان يسمى بيت "فرنسا" قرب مسجد الباشا بحارة الشام ، وكان مقراً للسفارة الفرنسية - ولم أشاهد بيتا آخر سواه مبني ( بالحجر الكحلي ) في جدة القديمة كما كانت له أروقه وبلكونات بديعة . .
وكان المعلم ويطلقون عليه "اليابا" - وهي كلمة تطلق عادة على معلمي بعض الحرف كان لا يعمل بموجب خريطة بل عادة ما يخطط على الأرض كما كانت المقاييس تتم بالذراع وهو يعادل حوالى ( 73سم ) . .
وكان من أشهر معلمي البناء بجده المشايخ . . خليل عليمي ،عبد الوهاب نعمة الله ، حسن دخنه ، سالم بقسماطى ، جميل عبده ، جميل شعراوي ،عبد الوهاب شعراوي ، أحمد تكروني ، وأخيراً عيسى عبد العاطي . . علماً بان الشيخ / محمد سعيد نعمة الله كان كبير معلمي البناء في منتصف القرن الرابع عثر . .
كذلك برز في مجال البناء القديم واكتسب شهرة واسعة المعلم الشيخ / صدقه محمد كركشان الذي ورث الهنة عن والده . . ومن أواخر أعماله ترميم بيت نصيف والعديد من البيوت الكبيرة ، وكانت أمانة بلدية جدة قد استعانت به في عهد المهندس / محمد سعيد فارسي لتحديد مواقع أبواب جدة وحدود سورها وبعض المعالم القديمة .
هذا وكان والده المعلم محمد عبد القادر من قبله من الشهود لهم في مجال الصنعة ، كما كان من أصحاب المناقب الحجرية . . وقد عمل أيضاً من هذه العائلة في أعمال البناء وما يتصل بها المعلمين أحمد و محضار كركشان .
وبيت الكركشان من بيوت جدة التي أنجبت العديد من الدكاترة والمهندسين والأساتذة ذوي السمعة الحسنة . . ويقال بأن هذه العائلة يعود إلى بيت " عبد الفتاح " المعروفين بالعلم والتجارة ، وأن لقب كركشان دلالة تركية تشير إلى روعة النقش وحفر الحجر المنقبي وقد أطلق على المعلم الشيخ / محمد عبد القادر عبد الفتاح . . وقد كان سائدا أن تطلق بعض الألقاب على أشخاص في الحارة أو بحكم الصنعة فتلازمهم وتخرج فرعاً من أصل تحت اسم مختلف .
أما الآلات التي كانت مستخدمه فهي ( المسحه والعتلة ) لقص الحجارة وتكسيرها بـ ( القدوم والكريك ) و ( الشاحوطه ) وهي قطعة حديدية تزن حوالي أربعة كيلوغرام مسنونة من الجانبين ويعمل بها "القراري" ( القدة ) أيضاً في القياس وهي فرع من الذراع مقدارها (18) قيراط . .
وتستخدم في الترميم الخارجي والطلاء ( الرحمانية ) أو ( السقالة ) وهي قاعدة خشبية تدلى من السطح بحبال متينة مثبتة في السطح أيضاً ينزل عليها البناء أو الدهان الذي يدهن الواجهات . أما مادة الدهان فكانت ( النورة ) وكانت تستخدم مكانس الخسف كبديل للفرشاه . .
هذا وكان التكافل الإجتماعي سمه من سمات المجمع الجداوي . فمن اراد بناء بيت وليست لديه أرض يسمح له أحد أقاربه أو مقربيه بالبناء على أرضه . ومن ثم تحكر الأرض مقابل أجر رمزي سنوي - وكان البعض يسمح لقريبه أو صديقه بالبناء فوق داره التي يسكنها - وبالتالي يدخل البناء في قسمة القراريط .
تعتبر قصة العمارة في مدينة "جدة القديمة" ملحمة جمالية خالدة ذات عناصر متميزة ودلالات حاضرة عن مدى عراقة هذا المجتمع وما يتمتع به أبناؤه من براعة الصنعة وحس ذوقي رفيع . . كما مثلت جاه موطناً من مواطن الثراء الفني لأعمال الزخرفة والأساليب الفنية للخشب بالحجاز. ويمثل الشكل المعماري لمدينة جدة القديمة محصلة لتراث معماري عريق . .
ولئن روى بعض المؤرخين قديماً أن بدايات جدة كانت مجرد قرية لصيادين تضم أكواخاً مبنية من جذوع الأشجار وأسقفها من سعف النخيل - وهكذا تكون بدايات المدن على السواحل عموما - غير أن جدة التي عشناها في طفولتنا ومطلع شبابنا ما بين حواريها الأربع قد تكون ملامح لوحتها عبر مات السنين بريشة أبناؤها الخلص . . فارتبطت عمارتها ببيتها وحركة الواقع والإمكانات والتقاليد المحلية . .
وفى وصفه لها في رحلته الحجازية عام 1327هـ ذكر محمد لبيب البتنوني . . أن جدة تبدوا للقادم من البحر على مسافة ساعتين بيضاء ناصعة . وفى جنوبها قرية صغيره تسمى النزلة كلها أكواخ ويسكنها البداة الأعراب . كما تقع قرب المدينة جزيرتان : جزيرة "سعد" وجزيرة "سعيد" ويقع فيهما الحجر الصحي لثغر الحجاز . . كما وصف مساكن جدة بأنها أشبه بمساكن مصر في عهد المماليك تحتوى على غرف كبيرة واسعة ذات سقوف عالية ولها شبابيك طويلة وعريضة على شكل المشربيات تسمى "الرواشين".
أما الرحالة اللبناني الأمير/ شكيب ارسلان ، فقد زار جدة عام 1348هـ وجاء في كتابه ( الإرتسامات اللطاف في خاطر الحج إلى أقدس المطاف ) وصف دقيق للشكل الهندسي العمراني لمباني جدة ومساكنها وما مر بها عبر العصور. .
فذكر المهندس محمد سعيد فارسي " أمين مدينة جدة السابق" بأن التراث المعماري لمدينة جدة قد تأثر من قبل حضارتين مجاورتين هما : إمبراطورية الفرس الساسانيين التي تعود إليها الفضل في تكون المخطط المنسق للمنطقة التاريخية ، ونظم تخزين المياه والآبار. . والحضارة الثانية إمبراطورية العثمانيين الأتراك . .
فبيوت جدة داخل السور وحتى السبعينات من القرن الرابع عشر الهجري نجدها متراصة في أغلبها بحيث يركز بعضها بعضاً ويظلل بعضها بعضاً للتخفيف من حرارة الشمس ، فتخطيط المدينة القديم يتمشى مع حاجة السكان والظروف الجغرافية والمناخية من حرارة أو برودة أو أشعة الشمس الحارقة . .
الأمر الذي تتقارب معه المساكن وتضيق الطرقات لتوفير مناطق مظللة ، وتجديد حركة الهواء ، وهي متعددة الطوابق وأعلاها لا يتجاوز خمس طوابق كما سجلت ذلك أيضا كافة كتب المؤرخين والزوار . . وتختلف واجهاتها التي يغلب عليها واجهة واحدة أو واجهتين والقليل منها أكثر من واجهتين ، وتحدد الواجهات حجم وعدد الرواشين بكل بيت . . والمعروف أن الشبابيك تعتبر منفذاً للهواء والتنفس والفرجة والمراقبة . وكان السكان يضعون فيها شراب الماء ( قلل ) على قاعدة خشبية مخصصة تسمى "المرفع" والبعض يضع فيها مراكن "أصص" من الفخار أو التوتوه وبها شيء من الزرع والورد البلدي لينعش المجلس .
وكلما كانت الرواشين أكبر بورزا كلما تخللها أكبر قدر من الهواء . . وأذكر أنني حينا كنت طفلاً كنت أقضي أجمل الأوقات مستمتعاً بالنظر من الشيش لمشاهدة ما يدور في الشارع كما أتذكر أننا كنا حينما تشتد حرارة الجو نقوم بتبليل الشراشف بالماء وننشرها في الشبابيك لتلطيف الهواء من خلالها .
ويحدد المهندس / محمد سعيد فارسي ، أمين بلدية جدة السابق في رسالة الدكتوراه التي قدمها عن جدة عناصر البناء المستخدمة في بيوت جدة القديمة ومصادرها . فيذكر : أن أحجار البناء كانت عادة من حجر الكاشور، وهو الحجر المنقبي "الحجر الجيري المرجاني" الذي كان يستخرج من الرصيف الصخري المرجاني الضحل لساحل البحر الأحمر في موقعين هما : شمال بحر الأربعين "النقبة" وعند شاطئ الرويس "حي الرويس حالياً" حيث كانت الملاحات لاستخراج ملح الطعام .
كما يذكر المهندس الفارسي أن بديل الأسمنت كان الطين الأسود اللزج المستخرج من قاع بحر الأربعين "بحر الطين" كما كان يستخرج أيضا نوع قوي من الحجر الرفادي يعرف بالحجر البحري وكان يستخدم في بناء البديل . .
أما الأخشاب فكانت من أخشاب شجر "الدوم" التي كانت تود من الطائف و "العرعر" من عسير و "أخشاب النخيل والزان والجاوى وغيرها التي استخدمت في أعمال الشبابيك والأبواب واللوحات الزخرفية والتأسيسية والمناور" أو من شجر "القندل" أو خشب "التيل" وهي من الأخشاب التي ترد مع سفن الحجاج والبضائع القادمة من جنوب شرق آسيا وتستخدم هذه الأخشاب عادة وخاصة الأخير منها في التسقيف سواءً كألواح أو عوارض ، كذلك في صناعة الرواشين والنوافذ وبعض الأثاث الداخلي مثل صناديق "السيسم" أو "السحارات" أو "الركالة".
وعن مبادئ العمارة لبيوت جدة القديمة يؤكد المهندس الفارسي بأنها كانت تماثل المبادئ العصرية وأسسها النظرية رغم فارق الإمكانات.
فالبيت كان يقوم على أساس إنشائي سليم حيث كان يقوم في أوله من المركز ببناء حائطين متقابلين يترك بينهما فراغ يملأ بالأحجار والطين أسلوب بناء سور جدة وكان هذان الحائطان يعرفان بـ ( فحل الدرج ) وعلى الفحل بقية حوائط البيت التي تبنى من الحجر المنقبي والطين وكسر الحجر الصغير ( الحشو) .
وكانت الحوائط تبنى على مراحل . أو بتر بارتفاع حوالي متر واحد يفصلها أو يدعمها ويقويها هيكل متصل من الخشب يتم به ضبط المناسيب الأفقية والرأسية للحوائط والواجهات حتى لا تميل مع الارتفاع وهو أسلوب يتفق مع الأساس النظري للمباني العصرية التي تبنى فيها أولاً نواة من الخرسانة المسلحة تستخدم كبئر للمصعد ويرتبط به هيكل مترابط من الكرات الصلب بهيئة العمود الفقري والضلوع إذ يمثل بئر السلم العمود الفقري للإنسان فيما يمثل الحوائط والكرات التي تشكل وتربط باقي البيت ضلوع القفص الصدري . .
وحتى تخف الأحمال على هذا العمود الفقري كانت واجهات المباني في معظمها تترك مفتوحة دون بناء فيها ثم تغطى بنوافذ خشبية عريضة وكبيرة أو رواشين .
على أن الإبداع الفني في جدة لم يقتصر على جانب هندسة البناء والتخطيط المدني وإنما ارتفع إلى جانب الحس الفني المتمثل في التصاميم الفنية البديعة لواجهات البيوت والنقوش المستوحاة من فنون الخط العربي وفروع النباتات والتشكيلات المثلثية والمربعات المتداخلة المعروفة في المساجد والقصور والدور الكبيرة في أنحاء العالم العربي والإسلامي القدم في الشام ومصر وتونس والمغرب وتركيا وبخارى والهند وسمرقند وتركستان وغيرها من الولايات الإسلامية في جنوب ووسيا .
وكانت هذه النقوش تظهر أكثر في واجهات الدور وفوق أبوابها ومداخلها بالجبس والجير وفي أبوابها وفتحات "ملاقف الهواء" وفي رواشينها من الخشب المشغول والمنحوت وفي صوالين الضيوف في الديوان والمجلس في الحوائط والأسقف وفي النوافذ الخشبية العريضة والعالية حفراً على الخشب وتنسيقا فنياً بديعاً لأطره . . كما تجد هذه اللمسات في حوائط الأسطح من الخارج سواءً الخشبي منها أو الجبسي .
وقد قال زائر إنجليزي لجدة قبل قرابة قرن من الزمان في وصفه لمباني جده : لقد كان الفن ليس مجرد زينة يتفاخر بها الأغنياء ، ولكنه عصب حياة ، وعنصر هام لا غنى عنه في نسيجها الإنساني وبائها الحضاري .
ولا شك أن ظواهر هذا الفن الباقية في بيوتها والمتصلة في حاضرها ، الممتدة إلى مظلات مستقبلها لدليل عميق الجذور على حقيقة هذه الملاحظة.
وحول مراحل تشييد المباني بجده فان العمل يبدأ أولاً بمد الخيوط وحفر الأساسات ودكها بالحجر ثم يبدأ البناء حتى يبلغ السقف فيضع العيدان . . ثم يسلم السقف للنجارين فيسقفونه بالجريد وسعف الخيل المشغول ثم بالتراب المبلل ، ثم التراب الجاف ، ثم النوره بدل البلاط ، ويكتفي غير المقتدرين بفرش التراب ويوضع فوقه "الخسف" . . أما السلالم فتبدأ بـ "فحل السلم" وهو جدار قوي وسميك يبدأ من أساس البيت حتى آخر دور وتربط به بشكل دائري عيدان السلم فيكون هو الذي يحمل الدرج ، وكلما ارتفع البيت كلما قلت سماكة الجدار .
وتوجد بعض البيوت المبنية على نظام أكثر حداثة وأخذت من نظام البناء التركي- فالسلالم مثلاً "نظام السلامليك" أي ما يعرف ( قلبة الدرج ) مثل بيت "جوخدار" وبيت "نصيف" . . بينما النظام الشائع يسمى ( المنائرى ) اى ما يشبه طريقة بناء منائر المساجد الدرج الدائري حول عود ثابت من الحجر.
والطريف أنهم كانوا يبنون البيت بدون درج حتى يكتمل البناء ثم يشرعون في بناء السلام إثباتاً لمقدرتهم الفائقة . وكانت البيوت القديمة تعمر مئات السنين . .
وفى سلم الدرج وعند كل طابق توجد ( البسطه ) وهى مساحة عريضة ولها باب كبير يفصل بين الطابقين . . وعادة يوجد بها شباك صغير لتسريب الضوء والهواء . وقد جرت العادة أن توضع في الشباك مساءاً ( اللمبه التنك ) ، أي الصفيح التي تعبأ بالغاز وتركب بها فتيلة بحيث يصبح الجزء الرئيسي منها مسقى بالغاز وتوصل بعجله من الصفيح لخفض الضوء أو زيادته . ويعبأ الغاز بـ "المحقن" وهو أداة القياس لضبط وبيع السوائل – آنذاك – .
ولعلي أذكر واحداً من أجمل بيوت جدة القديمة والذي كنت أتمنى لو تمت المحافظة عليه وكان يسمى بيت "فرنسا" قرب مسجد الباشا بحارة الشام ، وكان مقراً للسفارة الفرنسية - ولم أشاهد بيتا آخر سواه مبني ( بالحجر الكحلي ) في جدة القديمة كما كانت له أروقه وبلكونات بديعة . .
وكان المعلم ويطلقون عليه "اليابا" - وهي كلمة تطلق عادة على معلمي بعض الحرف كان لا يعمل بموجب خريطة بل عادة ما يخطط على الأرض كما كانت المقاييس تتم بالذراع وهو يعادل حوالى ( 73سم ) . .
وكان من أشهر معلمي البناء بجده المشايخ . . خليل عليمي ،عبد الوهاب نعمة الله ، حسن دخنه ، سالم بقسماطى ، جميل عبده ، جميل شعراوي ،عبد الوهاب شعراوي ، أحمد تكروني ، وأخيراً عيسى عبد العاطي . . علماً بان الشيخ / محمد سعيد نعمة الله كان كبير معلمي البناء في منتصف القرن الرابع عثر . .
كذلك برز في مجال البناء القديم واكتسب شهرة واسعة المعلم الشيخ / صدقه محمد كركشان الذي ورث الهنة عن والده . . ومن أواخر أعماله ترميم بيت نصيف والعديد من البيوت الكبيرة ، وكانت أمانة بلدية جدة قد استعانت به في عهد المهندس / محمد سعيد فارسي لتحديد مواقع أبواب جدة وحدود سورها وبعض المعالم القديمة .
هذا وكان والده المعلم محمد عبد القادر من قبله من الشهود لهم في مجال الصنعة ، كما كان من أصحاب المناقب الحجرية . . وقد عمل أيضاً من هذه العائلة في أعمال البناء وما يتصل بها المعلمين أحمد و محضار كركشان .
وبيت الكركشان من بيوت جدة التي أنجبت العديد من الدكاترة والمهندسين والأساتذة ذوي السمعة الحسنة . . ويقال بأن هذه العائلة يعود إلى بيت " عبد الفتاح " المعروفين بالعلم والتجارة ، وأن لقب كركشان دلالة تركية تشير إلى روعة النقش وحفر الحجر المنقبي وقد أطلق على المعلم الشيخ / محمد عبد القادر عبد الفتاح . . وقد كان سائدا أن تطلق بعض الألقاب على أشخاص في الحارة أو بحكم الصنعة فتلازمهم وتخرج فرعاً من أصل تحت اسم مختلف .
أما الآلات التي كانت مستخدمه فهي ( المسحه والعتلة ) لقص الحجارة وتكسيرها بـ ( القدوم والكريك ) و ( الشاحوطه ) وهي قطعة حديدية تزن حوالي أربعة كيلوغرام مسنونة من الجانبين ويعمل بها "القراري" ( القدة ) أيضاً في القياس وهي فرع من الذراع مقدارها (18) قيراط . .
وتستخدم في الترميم الخارجي والطلاء ( الرحمانية ) أو ( السقالة ) وهي قاعدة خشبية تدلى من السطح بحبال متينة مثبتة في السطح أيضاً ينزل عليها البناء أو الدهان الذي يدهن الواجهات . أما مادة الدهان فكانت ( النورة ) وكانت تستخدم مكانس الخسف كبديل للفرشاه . .
هذا وكان التكافل الإجتماعي سمه من سمات المجمع الجداوي . فمن اراد بناء بيت وليست لديه أرض يسمح له أحد أقاربه أو مقربيه بالبناء على أرضه . ومن ثم تحكر الأرض مقابل أجر رمزي سنوي - وكان البعض يسمح لقريبه أو صديقه بالبناء فوق داره التي يسكنها - وبالتالي يدخل البناء في قسمة القراريط .