شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : أحرق قلبها الخوف من الله


ريمة مطهر
02-17-2012, 11:23 PM
أحرق قلبها الخوف من الله
شعوانة .... أستاذة البكاء

قال معاذ بن الفضل ، أبو عون : " بكت شعوانة حتى خفنا عليها العمى فقلنا لها في ذلك ، فقالت : أعمى والله في الدنيا من البكاء أحب إليَّ من أن أعمى في الآخرة من النار .
مالك بن ضيغم قال : كان رجل من أهله الأبلة يأتي أبي كثيراً فيذكر له شعوانة وكثرة بكائها فقال له أبي يوماً : صف لي بكاؤها .
فقال : يا أبا مالك أصفُ لك . هي والله تبكي الليل والنهار ، لا تكاد تفتر قال : ليس عن هذا أسألك ، كيف تبتدئ بالبكاء ؟
قال : نعم يا أبا مالك تسمع الشيء من الذكر فترى الدموع تنحدر من جفونها كالقطر . قال : فمجاري الدموع من المآق الذي على الأنف أكثر أم مؤخر العين مما يلي الصدغ ؟ قال : يا أبا مالك ، إن دموعها أكثر من أن يعرف هذا من هذا ، ما هي إلا أن تسمع الذكر فتجيء عيناها بأربع سجوهاً متبادرة جداً .
فبكى أبي وقال : ما أرى الخوف إلا قد أحرق قلبها كله . ثم قال : كان يُقال إن كثرة الدموع وقلتها على قدر احتراق القلب . حتى إذا احترق القلب كله لم يشأ الحزين أن يبكي إلا بكى ، والقليل من التذكرة يحزنه .
قال مالك بن ضيغم : وقال لي أبي يوماً انطلق مع ( منبوذ ) حتى هذه المرأة الصالحة فتنظر إليها – يعني شعوانة - ، فانطلقت أنا وأبو همام إلى الأبلة ثم غدونا عليها فدخلنا فسلم عليها منبوذ وقال : هذا ابن أخيك ضيغم فرحبت بي وتحفت وقالت : مرحباً بابن من لم نره ونحن نحبه ، أما والله يا بني ، إني لمشتاقة إلى أبيك ، وما يمنعني من إتيانه إلا أني أخاف أن أشغله عن خدمة سيده ، وخدمة سيده أولى به من محادثة شعوانة .
ثم قالت : ومن شعوانة ؟ وما شعوانة ؟ أمة سوداء عاصية . قال : ثم أخذت في البكاء فلم تزل تبكي حتى خرجنا وتركناها .
يحيى بن بسطام قال : كنت أشهد مجلس شعوانة كثيراً فكنت أرى ما تصنع بنفسها ، فقلت لصاحب لي يقال له عمران بن مسلم : لو أتيناها إذا خلت . قال : فانطلقنا أنا وهو إلى الأبلة فاستأذنا عليها فأذنت لنا : منزل رث الهيئة أثر الجدب عليه بيّن . فقال لها صاحبي : لو رفقت بنفسك فقصرت عن هذا البكاء شيئاً كان أقوى لك على ما تريدين .
قال : فبكت ثم قالت : والله لوددت أن أبكي حتى تنفد دموعي ، ثم أبكي الدماء حتى لا تبقى في جسدي جارحة فيها قطرة من دم ، وأنى لي البكاء ؟ قال : فلم تزل تردد ذلك حتى انقلبت حدقتها ، ثم مالت ساقطة مغشياً عليها . فقمنا فخرجنا وتركناها على تلك الحال .
روح بن سلمة قال : قال لي مضر : ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة : ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشجت ثم نادت : يا موتى ، وبني الموتى ، وإخوة الموتى .
قال محمد : وقلت لأبي عمر الضرير : أتيت شعوانة ؟ قال : قد شهدت مجلسها مراراً ما كنت أفهم ما تقول من كثرة بكائها . قلت : فهل تحفظ من كلامها شيئاً ؟ قال : ما حفظت من كلامها شيئاً أذكره الساعة إلا شيئاً واحداً . قلت : وما هو ؟ قال : سمعتها تقول : من استطاع منكم أن يبكي فليبكِ ، وإلا فليرحم الباكي فإن الباكي أنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه .
عن الحارث بن المغيرة قال : كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين :
يُؤمل دنيا لتبقى له *** فوافى المنية قبل الأمل
حثيثاً يروي أصول الفسيل *** فعاش الفسيل ومات الرجل
الحسن بن يحيى قال : كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتبكي معها ، تقول :
لقد أمِن المغرور دار مُقامه *** ويوشك يوماً أن يخاف كما أمِن
عن فضيل بن عياض قال : قدمت شعوانة فأتيتها فشكون إليها فسألتها أن تدعو بدعاء ، فقالت : يا فضيل ، أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك ؟ قال : فشهق الفضيل ، وخرّ مغشياً عليه .
عن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال : كانت شعوانة قد كمدت حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة فأتاها آت في منامها فقال :
أذرى جفونك إما كنت شاجية *** أن النياحة قد تشفي الحزينينا
جدِّي وقُومي وصُومي الدهر دائبة *** فإنما الدوب من فعل المُطيعينا
فأصبحت فأخذت في الترنم والبكاء وراجعت العمل .
إبراهيم بن عبد الملك قال : قدمت شعوانة وزوجها مكة فجعلا يطوفان فإذا أكل أو أعيا جلس وجلست خلفه ، فيقول هو في جلوسه : أنا العطشان من حبك لا أروى ، وتقول هي بالفارسية : أنبت لكل داء دواء في الجبال . ودواء المحبين لم ينبت . رضي الله عنها .


المرجع
د / مصطفى مراد – قصص التابعيات – الطبعة الأولى 1423 هـ - 2003 م