ريمة مطهر
09-05-2011, 09:30 PM
في ذكر النساء الصالحات
آمنة ، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، بن كلاب ، وهي أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عبد الله بن عبد المطلب وعمره خمس وعشرون سنة ، وقيل ثلاثون سنة ، وكانت آمنة في حجر عمها أهيب لأن أباها قد مات فأتى عبد المطلب إلى أهيب ، وخطب ابنته هالة لنفسه ، فزوجه إياها ، وخطب آمنة بنت وهب لولده عبد الله ، فزوجها له في مجلس واحد .
وذكر في " شرح ذات الشفا " قال أهل السير : خرج عبد المطلب ومعه ولده عبد الله ، وكان أحسن رجل في قريش خلقاً وخلقاً ، وكان نور النبوة ظاهراً في وجهه ، فخرج مع أبيه ليزوجه ، فمر بامرأة منه بني أسد بن عبد العزى وهي أخت ورقة بن نوفل ، وكانت قد سمعت من أخيها بقرب ظهور النبي الأمي العربي وأن علامة أبيه نور في غرته ، فلما رأت عبد الله وقع في قلبها أنه هو ، فقالت له : يا عبد الله لك مثل الإبل التي نحرت عنك ، وقع علي الآن ، فأبى عبد الله ، وأنشد :
أما الحرامُ فالممـاتُ دونـه ... والحلُّ لا حلَّ فأستبـينـه
فكيفَ بالأمرِ الذي تبغـينـه ... يحمي الكريمُ عرضهُ ودينه
وكان اسم هذه المرأة رقية ، وقيل : فاطمة بنت مر الخثعمية ، وكانت من أجمل النساء وأعفهن فدعته إلى نكاحها فظن أنها تريد الحرام ، فأنشد بما قال ، وأما قولها : لك مثل الإبل التي نحرت عنك ، وذلك أن عبد المطلب لم يكن له ولد إلا الحارث ، فجرت بينه وبين عمه عدي مخاصمة ومجاورة فعيره بقلة العدد فغضب عبد المطلب وقال : لله علي لئن رزقني الله تعالى عشرة ذكور أن أجعل أحدهم نذراً نحيرة . ثم افترقوا فلما مضت من الدهر أعوام ، ولد لعبد المطلب عشرة أولاد ذكور سوى الحارث ، وست بنات ، فلما بلغ الذكور عشرة قال : لابد من الوفاء فجمعهم ، وأقبل إلى الكعبة فأحال عليهم القداح فخرجت القدح على عبد الله ، وكان يحبه ، فأخذ بيده ، وجاء به إلى إساف ونائلة فأضجعه وربطه ، فبلغ ذلك أخواله بني مخزم فجاءوه في جماعة من قريش ، فقالوا : ما هذا الذي تفعل ، والله ما أحسنت عشرة أمه ثم تريد نحر ولدها ، فارتحل نحو الحجاز فإن من أهله عرافة عالمة ، ولها تابع من الجن ، ففعل عبد المطلب ، ورحل معهم فأتوها وأعطوها رشوتها ، وأخبروها ، فقالت : انصرفوا وأحضروا إبلاً وصاحبكم واستقسموا على عشرة من الإبل وعليه حتى تبلغوا رضى ربكم . فعادوا راجعين إلى مكة ، فأوقفوا عشرة من الإبل وعبد الله ، ودعوا صاحب الأزلام فاستقسم على عبد الله والإبل فخرجت على عبد الله ، فزادوا عشرة فوقعت على عبد الله ، فلم يزل يزيد عشرة عشرة حتى بلغت الإبل مائة ، فخرج القدح على الإبل ، وفعل ذلك ثلاث مرات ، وهي تقع على الإبل ، فخلى عن عبد الله ، ونحرت الإبل لا يدفع عنها طائر ولا سبع ولا إنس ، ولذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن الذبيحين " يعني بهما إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله .
ولما أتى عبد المطلب أهيب عمها ، وقيل أبوها وهب ، وخطب منه آمنة لعبد الله فزوجه إياها ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً فدخل بها عبد الله ، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل ذلك النور إليها ، وكان ذلك يوم الإثنين ، في شعب أبي طالب ، عند الجمرة الوسطى ، وقيل : إن عبد الله بعد ما دخل على آمنة أتى المرأة التي عرضت نفسها عليه ، فقال لها : مالك لا تعرضي علي ما عرضت بالأمس ? فقالت له : فارقك النور الذي كان معك ، فما لي بك حاجة .
وقال الكلبي رضي الله عنه ثبت عندي للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم من قبل أمه وأبيه فما وجدت فيهن سفاحاً . وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ صلى الله عليه وسلم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) بفتح الفاء ، وقال : " أنا أنفسكم نفساً وصهراً وحسباً ، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح ، كلها نكاح " .
وعن العباس رضي الله عنه قال : قال والدي عبد المطلب قدمنا اليمن فنزلنا على حبر من اليهود ، فقال : ممن الرجال ? فقلت : من قريش . قال : من أيهم ? قلت : من بني هاشم . قال : أتأذن لي أن أنظر بعضك ? قلت : نعم ، قال : ففتح إحدى منخري ، فنظر فيه ثم نظر في الأخرى ، فقال : أشهد أن في إحدى منخريك ملكاً وفي الأخرى نبوة ، وإنما نجد ذلك في بني زهرة ، فكيف ذلك ? قلت : لا أدري . قال : هل من شاعة ? يعني زوجاً منهم لأنها تشايع زوجها وتناصره ، قلت : أما اليوم فلا ، لي زوجة منهم ، فقال : إذا تزوجت فتزوج منهم ، فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهب ، وزوج عبد الله آمنة بنت وهب ، فولدت هالة الحمزة رضي الله عنه ، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : إن الحبر قال لعبد المطلب : أرى ملكاً ونبوة ، وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي ، وعبد مناف بن زهرة ، واختلف في وقت حمل آمنة به صلى الله عليه وسلم فقيل : إنها حملت به يوم الاثنين من رجب ، وقيل أيام منى ، والأول منطبق على القول بأن ميلاده صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول ، والقول الثاني موافق لما ذهب أن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، وكانت آمنة تقول : ما شعرت أني حملت به ، ولا وجدت له ثقلاً كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي ، وربما كانت ترفع عني وتعود ، وقالت آمنة : أتاني آت وأنا بين النائمة والياقظة فقال : هل شعرت أنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها ? وأمهلني حتى دنت ولادتي فأتاني فقال : قولي إذا ولدته ، أعيذه بالواحد الصمد من شر كل حاسد ، يأخذ بالمراصد ، ثم سميه محمداً ، فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد يحمده أهل السماء والأرض ، وفي القرآن محمد وفي رواية أخرى : اسمه أحمد ، وقالت آمنة : أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام . وقال لي : يا آمنة إنك حملت بخير العالمين . فإذا ولدته فسميه محمداً ، واكتمي شأنك ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان من دلالة حمل آمنة أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً ، وعن كعب الأحبار : أن صبيحة تلك الليلة أصبحت أصنام الدنيا منكوسة . وقال أهل السير : وكانت السنة مجدبة والناس في ضيق ، وشدة فاخضرت الأرض ، وحملت الأشجار ، وأتاهم الرفد من كل جانب فسميت سنة الفتح والابتهاج ، وفي الحديث : " أن الله تعالى قد أذن تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكوراً " كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وذكر الحافظ النيسابوري : أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار إلى عبد الله كان يضيء في غرته وتفوح من فمه رائحة المسك الأذفر ، وكانو يستسقون به فيسقون . ونام في الحجر فانتبه مكحولاً مدهوناً قد كسي حلل المهابة ، والجمال ، فتحير ولم يدر من فعل به ذلك ، فانطلق به أبوه إلى كهنة قريش ، فقالوا : إن إله السموات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج ، ونام مرة أخرى في الحجر فرأى رؤيا فقصها على الكاهن ، فقالوا : لئن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض ، وليكونن للناس علماً مبيناً ، هذا الذي ذكره شارح الهمزية . وقال أيضاً : ولما حملت به آمنة ظهرت عليها الأنوار ، وكسيت أثواب البهاء والجمال، وهتفت بها الهواتف بالبشارات ، وقيل : إن راهباً كان بمر الظهران وهو مكان بمكة ، كان يقول : يوشك أن يولد منكم يا أهل مكة مولود اسمه محمد تدين له العرب ، ويملك العجم ، وهذا زمانه ، فكان لا يولد مولود إلا سئل عنه حتى ولد صلى الله عليه وسلم وأخبر الراهب جده بولادته فقال : سميه محمداً وقد طلع نجمه البارحة ، وعن عائشة رضي الله عنها ، أنه كان بمكة يهودي فصاح ليلة ولادته : يا أهل مكة هل ولد فيكم الليلة مولود ? فقالوا : لا نعلم . فقال : ولد الليلة نبي الأمة الأخيرة ، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس ، فأدخلوه على أمه آمنة لما ولد صلى الله عليه وسلم وكشف له عن ظهره فرأى تلك العلامة فخر مغشياً عليه ثم أفاق ، فقال : ذهبت النبوة من بني إسرائيل .
ومن آيات حمله صلى الله عليه وسلم ما كانت تراه أمه وأبوه وجده من الرؤيا الصادقة ، ولما حملت به أخبرت الكاهن بقرب ظهوره ، وطلوع كوكب نوره ، ومنها ما سمعته قريش من الهواتف على الحجون شعراً :
فأقسمُ ما أنثى منَ النَّاسِ أنجبـت ... ولا ولدت أنثى من النَّاسِ واحدة
كما ولدت زهريّة ذاتَ مفخرٍ ... مجنَّبةً لؤمَ القبائلِ مـاجـدة
ومنها أنه كان يسمع كل شهر من شهور حمله : أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم مباركاً ميموناً .
ومنها أن نودي في الملكوت ، أن النور المكنون قد انتقل إلى بطن أمه آمنة ذات العقل الباهر والفضل الظاهر ، ولما صار لآمنة شهران من حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد المطلب ولده عبد الله أن يسافر إلى غزة من أرض الشام ، ليأخذ لهم ما يحتاجون من لباس وطعام وغير ذلك ، فسار مع التجار ، واشترى لهم طعاماً وثياباً وغير ذلك ، ولما عاد التجار عاد معهم عبد الله ، فتمرض بالطريق ، ولما وصلوا إلى المدينة ثقل بعبد الله المرض فتخلف بها عند أخواله بني عدي بن النجار ، ولبث في المدينة أياماً ومات ودفن هناك وله من العمر ثلاثون سنة ، ولما بلغ خبر وفاته إلى عبد المطلب وجد عليه وجداً شديداً ، وحزن عليه وبكى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حملاً في بطن أمه ، وذلك بعد شهرين ، فعلى رواية أنه تزوج عبد الله بآمنة في رجب وولد صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول ، فتكون وفاة عبد الله في أوائل رمضان ، وخلف عبد الله جاريته أم أيمن وخمسة جمال ، وقطعة غنم ، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد نقل الإمام أبو حيان في تفسيره : أن جعفر الصادق قيل له : لم يتم صلى الله عليه وسلم من أبويه ? قال : لئلا يكون عليه حق المخلوقين ، وقال ابن العماد في " كشف الأسرار " إنما رباه يتيماً لينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه وإلى أوائل أمره فيعلم أن العزيز من أعزه الله ، وأن قوته ليست من الآباء والأمهات ، ولا المال ، بل قوته من الله تعالى وأيضاً ليرحم الأيتام والفقراء .
واختلف في مدة حمله صلى الله عليه وسلم فقيل : تسعة أشهر وقيل عشرة أشهر ، وقيل : سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : ستة أشهر وذكر في " السيرة الحلبية " كان حمله ووضعه في ساعة واحدة ، وقيل في ثلاث ساعات ، كما قيل في ولادة عيسى عليه السلام وهذا غير صحيح ، واختلف في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم فالجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول ، قال ابن كثير والحافظ ابن حجر ، وهذا هو الصحيح ، وأنه ولد يوم الاثنين لاثنتي عشر ليلة من ربيع الأول وبه جزم ابن إسحاق وتبعه ابن سيد الناس ، ورواه ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما هكذا ذكره في " التبيين في أنساب القرشيين " وقيل : ولد في ثاني ربيع الأول ، وقيل : في ثامنه ، وبهذا قال ابن حجر : أنه مقتضى أكثر الأخبار : وقيل : في عاشره ، رواه الدمياطي عن جعفر الصادق وصححه ، وقيل : لسبع عشرة منه ، وهذا الذي رواه ابن أبي شيبة وهو حديث معلول ، وقيل : لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول ، وقيل في صفر ، وقيل في ربيع الآخر ، وقيل في رجب ، وقيل في رمضان ، وقيل في يوم عاشوراء كعيسى عليه السلام وقيل : لخمس بقين من محرم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين من ربيع الأول ، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين من ربيع الأول ، وهاجر يوم الاثنين من ربيع الأول ، وأنزلت عليه سورة البقرة يوم الاثنين من ربيع الأول ، وتوفي يوم الاثنين من ربيع الأول . وقال بعضهم : هذا غريب جداً ، وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلاً ، ويؤيده ما رواه عثمان بن عفان بن أبي العاصي عن أمه أنها شهدت ولادة النبي ، صلى الله عليه وسلم ليلاً ، قالت : فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نوراً أو أني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول علي ، وقال ابن دحية : هذا حديث مقطوع . وفي الحديث الصحيح أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال : " فيه ولدت " . وهذا ما رواه ابن عباس وقال أصحاب الإشارة : قوله تعالى : ( والضحى والليل إذا سجى ) إشارة إلى ليلة مولده صلى الله عليه وسلم أو ليلة معراجه وروى الحافظ ابن عساكر أن ولادته كانت حين طلوع الفجر ، ويؤيد ذلك قول عبد المطلب : ولد لي الليلة مع الصبح مولود . وعن سعيد ابن المسيب أنه ولد صلى الله عليه وسلم عند إبهار النهار ، وذلك في وسطه ، وقال ابن سعيد رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأت أمي حين وضعت سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى " ، وكان مولده ، صلى الله عليه وسلم في فصل الربيع في شهر نيسان لعشرين ليلة خلت منه ، وقيل : في برج الحمل : وفي بعض الأقاويل :
يقولُ لنا لسانُ الحـالِ مـنـهُ ... وقولُ الحقِّ يعذبُ للسّـمـيعِ
فوجهي والزَّمانُ وشهرُ وضعي ... ربيعٌ في ربيعٍ فـي ربـيعِ
وذكر في كتاب " التبيين " كان وضعه صلى الله عليه وسلم في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج ، وكانت قبل داراً لعقيل ابن أبي طالب ، ولم تزل بيد أولاده إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف بمائة ألف دينار . وقيل : إن الأصح كان مولده بمكة ، وهم يزورونه في كل عام ، وقيل في شعب بني هاشم وفي كلام ابن دحية ، أن الدار التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم لما حجت الخيرانة أم الرشيد أخرجتها من دار محمد بن يوسف ، وبنتها مسجداً ، وقيل : إن تلك الدار عند الصفا بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجداً لما حجت ، وقيل : ولد في الردم ، أي ردم بني جمح ، ويعرف الآن بالمدعى لأنه يؤتى فيه الدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة ، وقيل : في شعب أبي طالب ، ومما نص عليه بعض الفقهاء ، أنه يجب على الولي أن يعلم ولده إذا ميز أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة ومات بالمدينة ، واختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم فقيل في عام الفيل . وقيل : في يومه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : ولد صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ، وعن قيس بن مخرامة : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ضحى ، وفي " تاريخ ابن حبان " : ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل في اليوم الذي بعث الله الطير الأبابيل على أصحاب الفيل . وذكر في " تاريخ المؤيد " أنه ولد يوم العاشر من ربيع الأول عام الفيل ، وذلك بعد الفيل بخمسين يوماً ، لأن الفيل كان في منتصف المحرم ، وهذا هو المشهور ، وقيل : ولد بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً ، وقال بأربعين ، وقال بشهر ، وقيل بعشر سنين ، وقال بثلاث وعشرين سنة ، وقيل : بثلاثين سنة ، وقيل بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة .
وذكر الحافظ الدمياطي : أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً ، وهو الأصح وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري ، لا يشك فيه أحد من العلماء ، وعليه الإجماع ، وقيل : أنه ولد صلى الله عليه وسلم قبل عام الفيل خمسة عشر عاماً ، وهذا غريب منكر ضعيف وقال الحافظ النيسابوري : كان نور النبوة في وجه عبد المطلب يضيء كالغرة ، وكانت قريش إذا أصابهم جذب أخذوا بيد عبد المطلب وصعدوا به إلى جبل ثبير يستسقون فيه فيسقون ببركة ذلك النور .
وقصة أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم ملك الحبشة بنى له كنيسة في اليمن ، وأمر الناس بالحج إليها كالكعبة ، وزخرفها وجعل فيها صلبان الذهب والفضة ، ومنابر العاج ، والأبنوس ، ثم إن بعض العرب من كنانة دخل الكنيسة ، وتغوط فيها ولوث جدرانها بالعذرة ، ولطخ قبلتها فحلف أبرهة ليهدمن من الكعبة فسار بعسكره إلى الكعبة ومعه أفيال ، وأعظمها فيه المسمى المحمود ، فقاتل العرب وأسرهم ، وتقدم ونزل قريباً من الطائف ، وأرسل خيله ونهبت إبل قريش ، وفيها لعبد المطلب أربعمائة ناقة : وتحصنت قريش بجبال مكة ، فجاء رسول أبرهة إلى عبد المطلب ، وأخبره إنما جاء الملك لهدم البيت ، فقال عبد المطلب : للبيت رب سوف يحميه ، وسار عبد المطلب مع الرسول إلى أبرهة فأكرمه وأجلسه معه على السرير ، فقال لترجمانه : قل له ، فيا أتيت ? فقال : بطلب الجمال والخيل ، فقال له : الجمال والخيل وتركت هدم البيت ? فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وأما البيت فله رب إن شاء منعه . فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني ثم انصرف عبد المطلب بجماله وخيله وصعد على الجبل ، وأحاطت عساكر أبرهة بالحرم ، فأقبل عبد المطلب وأخذ بأذن الفيل محمود ، وقال له : أبرك محموداً فهذا بيت الله وحرمه فبرك محمود عند وادي محسر فصاروا يضربونه فلا يقوم فوجهوه إلى اليمن فهرول ، وكذا إلى الشام ، وسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم يفد ذلك ، وكان عبد المطلب قد دخل البيت فأخذ بحلقة الباب ، ومعه نفر من قريش فقال :
لاهمَّ إنَّ المرءَ يمنعُ رحلهُ ... فامـنـع رحـالــك
فامـنـع رحـالــك ... وعابـديه الـيومَ آلـك
لا يغلبـنَّ صـلـيبـهـم ... ومحالهم أبداً محـالـك
ثم صعد بهم إلى رؤوس الجبال ، ولم تزل الحبشة تضرب رأس الفيل محمود ومراقه لينهض نحو البيت ، وهو لا يفعل حتى أرسل الله عليهم الطير الأبابيل مع كل طير ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه ، كل حجرة بقدر العدسة يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ، ويتساقط لحمه ، ولما أحس أبرهة بالشر ركب في نفر من أصحابه وسار على وجه ، والطيور على رؤوسهم مثل الخطاطيف ، فجعلت ترمي واحداً واحدا وهم يتساقطون في الطرق ، ورمت أبرهة فجعل يتساقط جسده شيئاً فشيئاً حتى هلك ، ولم ينج منهم سوى واحد دخل على النجاشي فأخبره بالخبر والطير على رأسه ، فلما فرغ ألقى عليه الحجر ، فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم . وعظمت قريش ، وتمزقت الحبشة ، وبقيت كنيسة أبرهة خربة حولها الوحوش والحيات .
وذكر في " حياة الحيوان " أن الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض . وذكر في " المعالم " أن عبد المطلب لما دخل البيت ، أخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
يا ربَّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربِّ فامنع منهم حماكا
إنَّ عدوَّ البيتِ من عاداكـا ... امنعهم أن يخرّبوا قراكا
وذكر فيه أيضاً : أن النجاشي ملك الحبشة بعث إلى أرض اليمن رجلاً اسمه أرياط فملك اليمن ثم ظهر أبرهة ، وقتل أرياط واستولى على اليمن من قبل النجاشي ، فكان منه ما كان وبعث الله إلى أبرهة داء في جسده فجعلت تتساقط أنامله ، كلما سقطت أنملة تبعها دم وقيح حتى وصل إلى صنعاء ، وعجل الله بروحه إلى النار .
وقال مقاتل : كان معهم فيل واحد ، وقال الضحاك : ثمانية ، وقيل : إثنا عشر سوى الفيل الأعظم . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانت طير أبابيل لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب ، وقال عكرمة : لها رؤوس كرؤوس السباع ، وقال الربيع : لها أنياب كأنياب السباع ، وقال سعيد بن جبير : طير خضر لها مناقير صفر ، وقال قتادة : طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجران في رجليه وحجر في منقاره ، لا يصيب شيئاً إلا هشمه ، وقالت عائشة ، رضي الله عنها : أدركت قائد الفيل وسائقه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
وفي " تاريخ ابن الوردي " أن بين هبوط آدم عليه السلام ومولده صلى الله عليه وسلم ستة آلاف وثلاثاً وستين سنة . وفي " أخبار الدول " عن الشيخ محيي الدين يروي عن ابن عباس : أنه كان من آدم عليه السلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وخمسمائة وخمس وسبعون سنة .
وذكر محمد بن جرير الطبري : أن من آدم إلى انقضاء الخلق سبعة آلاف سنة ، ويؤيده ما روي في الحديث " أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأن في آخرها ألفاً " وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قال : " مضى من الدنيا ستة آلاف وسبعمائة " وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ كم خلق الدنيا ؟ فقال : " أخبرني ربي عز وجل أنه خلقها منذ سبعمائة ألف سنة إلى اليوم الذي بعثني فيه رسولاً إلى الناس " وذكره البلخي وقال : يدل على ذلك ما جاء في الخبر ، أن إبليس عبد الله تعالى قبل أن يخلق آدم بخمسة وثمانين ألف سنة ، وأنه خلق بعدما خلقت السماوات والأرض من المدد ما شاء الله تعالى وجاء في الحديث " أن كل شيء خلقه الله تعالى كان قبل آدم ، وأن آدم بعد إيجاد الخلق لأن خلق آخر الأيام ، التي خلق فيها الخلق " وزعم بعضهم أنه كان قبل آدم في الأرض خلق لهم لحم ودم ، قيل : إنهم كانوا خلقاً ، فبعث إليهم نبياً اسمه يوسف فقتلوه ، وكان إبليس منهم فأسره الملائكة فعاش فيهم وصار يتخلق بأخلاقهم إلى أن كان من أمره ما كان ، وعاد إلى فطرته .
وذكر في " تاريخ ابن الوردي " أن بين مولد النبي صلى الله عليه وسلم وبين رفع عيسى عليه السلام خمسمائة وخمساً وأربعين سنة ، وفيه أيضاً أن في سنة أربع وعشرين من ملك كسرى ولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم وولد صلى الله عليه وسلم في سنة اثنتين وأربعين من ملك كسرى وعلى هذا يكون سن عبد الله حين تزوج بآمنة ثماني عشرة سنة ، وهو مخالف لما ذكر ، أنه ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وولد أبوه قبل الفيل بخمس وعشرين سنة . وذكر في " شرح ذات الشفاء " روى أبو النعيم أنه أتى إلى آمنة آت بعد ستة أشهر من حملها وقال : يا آمنة إنك حملت بخير العالمين ، فإذا وضعته فسميه محمداً ، واكتمي شأنك ، ولما أخذها الطلق وكانت وحدها رأت كأن طائراً أبيض مسح فؤادها ، فذهب رعبها ، وأتيت بشربة بيضاء فتناولتها وغشيتها الأنوار ، ورأت نسوة طوالاً أحدقن بها فقلن لها : نحن ، آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وهؤلاء الحور العين ، ورأت ديباجاً أبيض مد بين السماء والأرض ، ورجالاً بأيديهم أباريق فضة ، وقطعة من الطير أقبلت حتى غطت حجرتها ، مناقيرها من الزمرد ، وأجنحتها من الياقوت ورأت مشارق الأرض ومغاربها ، وعلماً بالمشرق وعلماً بالمغرب ، وعلماً على ظهر الكعبة فأخذها النعاس فوضعته صلى الله عليه وسلم ساجداً ، رافعاً إصبعيه إلى السماء كالمتضرع ، ورأت سحابة بيضاء غشيته ، صلى الله عليه وسلم ثم ذهب عنها ، وسمعت منادياً يقول : طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها ، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ، ونعته وصورته ، ويعلموا أنه ماحي الشرك ، ثم تجلت عنه وقد قبض صلى الله عليه وسلم على حريرة بيضاء مطوية طياً شديداً ينبع منها الماء ، وسمعت قائلاً يقول : بخ بخٍ قبض محمد على الدنيا كلها ، فلم يبق أحد ورأت ثلاثة نفر بيد أحدهم ، أبريق فضة ، والثاني : طشت من زبرجد خالص ، والثالث : حريرة بيضاء ، أخرج منها خاتماً يحار به الناظرون ، فغسله سبع مرات ثم ختم به بين كتفيه ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ، ثم رده إلى أمه ، كذا ذكره في " شرح الهمزية " .
وروي عن آمنة أنها قالت : لما أخذني ما يأخذ النساء وإني لوحيدة في المنزل ، رأيت نسوة كالنخل طولاً ، كأنهن من بنات عبد مناف ، وفي رواية من بنات عبد المطلب . ما رأيت أضوأ منهن وجوهاً وكأن واحدة منهن تقدمت فاستندت إليها ، وأخذني المخاض ، واشتد علي الطلق ، وكأن واحدة منهن تقدمت إلي وناولتني شربة من الماء فشربت ، وقالت الثالثة : ازدادي . فازددت ثم مسحت بيدها على بطني ، وقالت : بسم الله اخرج بإذن الله ، وقلن لي : نحن آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وهؤلاء من الحور العين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن آمنة سمعت منادياً ينادي طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها ، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ، وفي رواية : أنها رأت سحابة عظيمة لها نور ، سمعت فيها صهيل الخيل ، وخفقان الأجنحة ، وكلام الرجال أقبلت فغشيته صلى الله عليه وسلم وغيب عنها فسمعت منادياً ينادي : طوفوا بمحمد مشارق الأرض ومغاربها واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش .
وعن عبد المطلب قال : كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت وخرت سجداً ، وسمعت صوتاً من جدار الكعبة يقول : ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار ويطهر من عبادة الأصنام ، ويأمر بعبادة الملك السلام .
وأخرج أبو نعيم حديث الشفاء ، أم عبد الرحمن ، قالت : لما ولد صلى الله عليه وسلم وقع على يديه ، فاستهل فسمعت قائلاً يقول : رحمك الله ورحم بك ، فقالت : فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى بعض قصور الروم ، ثم أضجعته ، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة ، ثم أسفر عن يميني ، وسمعت قائلاً يقول : أين ذهبت به ? قال : إلى المغرب ، وأسفر ذلك عني ، ثم عاودني عن يساري فسمعت قائلاً يقول : أين ذهبت به ? قال : إلى المشرق ، قالت : فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعثه الله ، فكنت في أول الناس إسلاماً . وروي عن آمنة أنها قالت : رأيت كأن شهاباً خرج مني .
وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم لما وقع على الأرض وقع مقبوضة أصابع يده مشيراً كالمسبح بها ، وفي رواية عن ابن سعد : وقع على يده رافعاً رأسه إلى السماء وقبض قبضة من تراب فبلغ ذلك بعض العرب فقال : لئن صدق الفال ليغلبن هذا المولود أهل الأرض ، وفي رواية : أنه صلى الله عليه وسلم وقع على كفيه وركبتيه شاخصاً بصره إلى السماء . وروى ابن الجوزي عن ابن البراء قال : قالت آمنة : وجدته جاثياً على ركبتيه ينظر إلى السماء ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجداً .
وفي " شرح البخاري " أنه صلى الله عليه وسلم تكلم أول ما ولد . وذكر صاحب " الخصائص " : أن مهده صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بتحريك الملائكة ، وأن أول كلامه قوله : الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً . وذكر في السير : ورأت آمنة عند ولادته نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام ، وفي رواية : حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى . وإلى ذلك أشار عمه العباس بقوله من أبيات :
وأنتَ لمّا ولدتَ أشـرقـتِ ال ... أرضُ وضاءت بنورك الأفقُ
فنحنُ في ذلكَ الضّـياءِ وفـي ... النُّورِ سبيلَ الرّشادِ نختـرقُ
وذكر أهل السير : أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى وانشق وانصدع وسقط منه أربع عشرة شرفة ، وكان له شرفات كثيرة ، فلما أصبح كسرى أجزعه ما رأى فجمع وزراءه يتحدثون في شأن الإيوان فجاءهم الخبر بخمود النيران ولم تكن تخمد من ألف عام ، فازدادوا غماً ، ودخل عليهم المؤبذان عالم الفرس وخادم النيران ، وقص عليهم رؤيا رآها وهي كأن إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد عبرت دجلة وانتشرت في بلادهم ، ثم ورد على كسرى كتاب صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر في بحريتها ثم ورد كتاب صاحب الشام يخبره بإفاضة وادي سماوة ، فلما رأى ذلك كسرى داخله الفزع والجزع فأرسل إلى النعمان يأمره أن يرسل رجلاً من علمائهم ، فأرسل له بعد المسيح الغساني وعمره مائة وخمسون سنة ، فلما دخل على كسرى حدثه بما رآى وما سمع ، فدله على خاله سطيح وهو بالشام ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثمائة سنة ، وقيل : سبعمائة ، وكان جسداً بلا جوارح وكان وجهه في صدره ، وليس له رأس ولا عنق ، وهو مثل الضرف تطوى رجلاه ويداه ، وإذا أريدت أخباره يحرك فينفتح ويمتلئ ويعلوه النفس ، ويجلس إذا غضب ، فيخبر عما يسأل وهو أول كاهن في العرب ، فأمر كسرى عبد المسيح بالمسير إلى سطيح ، فسار ولما دخل على سطيح ، ناداه سطيح : يا عبد المسيح أقبل على جمل مشيح إلى سطيح ، وقد وافى على الضريح ، بعثك ملك ساسان لاتجاج الإيوان وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلاً صعاباً ، تقود خيلاً عراباً ، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهرواة ، وغاضت بحيرة سماوة وخمدت نار فارس ، فليست بابل للفرس مقاماً ولا الشام لسطيح شاماً ، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آتٍ آت . ثم مات سطيح من ساعته ، فنهض عبد المسيح بعد موت سطيح إلى راحلته ، وجعل ينشد ويقول شعراً :
شمّر فإنَّكَ ماضي العزمِ شمّـيرُ ... ولا يغرّنّكَ تفريقٌ وتـغـييرُ
والنّاسُ أولادُ علاّتٍ فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجـورُ
وهم بنوا ألامّ إمّا أن رأوا نشبـاً ... فذاك بالغيبِ محفوظٌ ومنظور
والخيرُ والشّرُ مقرونانِ في قرنِ ... فالخيرُ متّبعٌ والشّرُّ محـذورُ
وسار فلما دخل على كسرى أخبره بما قال له سطيح ، فقال كسرى : إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً كانت أمور وأمور ، فملك منهم عشرة في أربع سنين ، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وقول سطيح ، ملكات ، المراد بها : بوران وأختها أرزمي بخت بنتا برويز كسرى .
ومن آيات مولده صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه ولد مسروراً أي مقطوع السرة وعن أنس رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من كرامتي على ربي أن ولدت مختوناً ، ولم ير أحد سوأتي " وعن عكرمة رضي الله عنه أن إبليس لعنه الله ، لما ولد صلى الله عليه وسلم ورأى تساقط النجوم ، قال : لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا ، ثم أمر أولاده أن يأتوه بتربة ، من كل أرض وهو يشمها فلما شم تربة تهامة : قال : من ههنا دهينا . وذكر في تفسير " ابن مخلد " رن إبليس أربع رنات ، أي صوّت صوت كآبة وحزن ، رنة حين لعن ، ورنة حين أهبط ، ورنة حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ورنة حين نزلت الفاتحة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يهودياً صاح في تلك الليلة على أطمة أي مكان عالٍ يا معشر اليهود ، فأقبلوا عليه فقالوا : ما بالك ? فقال : طلع نجم أحمد الذي ولد هذه الليلة ، وقيل : لما ولد صلى الله عليه وسلم لم يرضع لليلتين ، قيل : أن عفريتاً من الجن وضع يده على فمه صلى الله عليه وسلم ولما رآه ذلك اليهودي خر مغشياً عليه ، وقال : ذهبت النبوة من بني إسرائيل ، أما والله ليسطون عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب ، وتزلزلت الكعبة ثلاثة أيام بلياليها ، ولم تسكن حتى ولد صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يناغي القمر في مهده ويحدثه . ويروى عن العباس رضي الله تعالى عنه قال : دعاني إلى الدخول في دينك رأيتك تناغي القمر فتشير إليه ، بإصبعك فحيثما أشرت إليه مال ، قال صلى الله عليه وسلم : " كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته ، أي سقطته ، حين يسجد تحت العرش " وروى البيهقي : أنه لما كان يوم السابع من ولادته ، صلى الله عليه وسلم ذبح له جده ، ودعا قريشاً فلما أكلوا قالوا : ما سميته ? قال : محمداً . قالوا : لم رغبت عن أسماء أهل بيته ? قال : أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض .
وعن محمد الباقر رضي الله عنه قال : أمرت آمنة في المنام ، وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه أحمد . قال صلى الله عليه وسلم : " من ولد له مولود فسماه محمداً حباً لي وتبركاً باسمي كان هو ومولده في الجنة " . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمداً فقد جهل . وذكر في " شرح ذات الشفاء " أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم سارت ثويبة مولاة أبي لهب فبشرته بولادة النبي المنتخب فأعتقها ، ومما لا يجوز القول به لمخالفته القرآن الكريم قول من قال إنه يخفف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين أو ليلته وأما الرؤيا التي ذكرت عن العباس أنه رأى فيها أبا لهب بالمنام فسأله عن حاله فقال له يخفف عني العذاب كل ليلة اثنين وأمص من بين أصابعي ماء مثل هذا وأشار إلى نقرة إبهامه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة حين بشرتني بولادة محمد ابن أخي وبإرضاعها له فهذا لا يرد ما جاء في قوله تعالى عن الكفار في النار ( فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) سورة البقرة .
ولما ولد صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه آمنة سبعة أيام ، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب وقيل : أرضعته أمه سبعة أشهر وأرضعته ثلاث أبكار من سليم يسمين العواتك ، وضعت أثداءهن في فمه فدرت له قال صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن العواتك من سليم " قيل : العاتكة : الملطخة بالطيب أو الطاهرة ، ثم أرضعته أم فروة ، ثم أرضعته أم أيمن بركة مولاة أبيه ، ثم أرضعته خولة بنت المنذر ، ثم أرضعته حليمة السعدية ، وذكر في " الخصائص " لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت ، ولما بلغ من العمر صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه ، وفي تسعة أشهر تكلم بالكلام الفصيح ، وفي عشرة كان يرمي مع الصبيان ، وكانت أخته الشيماء ترقصه صلى الله عليه وسلم وتقول شعراً :
هذا أخي لم تـلـدهُ أمّـي ... وليسَ من نسلِ أبي وعمّي
فديتهُ من مخولِ مـعـمِّ
والشيماء أخته من الرضاع ، وهي بنت حليمة السعدية سبيت يوم هوازن ، فقالت لمن سباها : أنا أخت صاحبكم ، فحملوها إليه ، فقالت : يا رسول الله أنا أختك ، قال : وما علامة ذلك ? قالت : عضة منك في ظهري . فعرفها ، فقام صلى الله عليه وسلم وبسط رداءه وأجلسها عليه ، ودمعت لها عيناه وإلى هذا أشار صاحب الهمزية ، بقوله شعراً :
أتى السبيُّ فيه أختُ رضاعِ ... وضعَ الكفرُ قدرها والسّباءُ
بسط المصطفى له من رداءٍ ... أي فضلٍ حواهُ ذاكَ الرداءُ
فحباها بّراً توهّمت الـنّـاسُ ... به، إنّما النـسـاءُ هـداءُ
وتوفيت آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وعمره أربع أو ست سنين ، وقيل : سبع سنين وقيل : ثمان سنين ، وقيل : تسع سنين ، وقيل : اثنتي عشر سنة وشهراً وعشرة أيام ، والأول أرجح ثم الثاني .
وروى أبو نعيم عن أسماء بنت أبي رهم ، عن أمها قالت : شهدت آمنة في علتها ومحمد صلى الله عليه وسلم غلام يقع عند رأسها ، له خمس سنين ، فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم ثم قالت شعراً :
باركَ فيكَ الـلـه مـن غـلامٍ ... يا ابنَ الذي من حومةِ الحمامِ
نجا بعونِ الملكِ الـمـنـعـام ... فدى غداةَ القرعِ بالـسّـهـامِ
بمـائةٍ مـن إبـلٍ ســـوامٍ ... إن صحَّ ما أبصرتُ في المنامِ
فأنتَ مبـعـوثٌ إلـى الأنـامِ ... من عند ذي الجلالِ والإكرامِ
تبعثُ في الحلِّ وفي الـحـرامِ ... تبعثُ بالتخفـيف والإسـلامِ
دينُ أبـيكَ الـبـرِ إبـراهـام ... فالله أنهاكَ عـن الأصـنـامِ
أن لا تواليهـا مـع الأقـوامِ
ثم قالت : كل حي ميت ، وكل جديد بال ٍ. وأنا ميتة وذكري باق . وقد تركت خيراً ، وولدت طهراً . ثم ماتت فكنا نسمع نواح الجن عليها ، وكان موتها بالأبواء موضع قريب إلى المدينة ، وكان موتها وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم من المدينة من زيارة أخواله ، فمكث عندهم شهراً ، ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة ، فماتت ودفنت بالأبواء وقيل : بالحجون في شعب أبي ذر ، وفي " القاموس " دار رابعة بمكة مدفن آمنة ، وتوفيت آمنة ولها من العمر نحو عشرين سنة . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون ، وهو باك حزين مغتم ، فبكيت لبكائه ، ثم طفق يقول : " يا حمراء استمسكي فاستندت إلى جانب البعير ، فمكث عني طويلاً ثم عاد وهو فرح مبتسم ، فقلت له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باك حزين ثم عدت إلي وأنت فرح مبتسم فمم ذاك ? قال : " ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت فردها الله تعالى وفي " الأشباه والنظائر " لابن نجيم ، من مات على الكفر أبيح لعنه إلا والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لثبوت أن الله أحياهما له حتى آمنا به . كذا في " مناقب الكردري " وما أحسن ما قاله الشيخ شمس الدين ، محمد بن ناصر الدين الدمشقي شعراً :
حبُّ النّبيّ مـزيدُ فـضـلٍ ... على فضلٍ وكان به رؤوفا
فأحـيا أمّـهُ وكـذا أبــاهُ ... لإيمانٍ به فضلاً مسـيّفـا
فسلّم فالـقـديمُ بـذا قـديرٌ ... وإن كانَ الحديثُ به ضعيفا
وعلى كل حال ، فالحذر الحذر بذكرهما بما فيه نقص فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات " ولا ريب أن أذاه كفر يقتل فاعله إن لم يتب منه خصوصاً وهما ناجيان من التعذيب في الدار الآخرة لأنهما من أهل الفطرة ، وقد دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة لقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) وذكر في " شرح الجوهرة " : قال الجلال السيوطي في " مسالك الحنفاء في والدي المصطفى " : نقلت من مجموع بخط الشيخ كمال الدين والد شيخنا تقي الدين ما نصه : سئل القاضي أبو بكر بن العربي عن : من قال : إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار ? فأجاب : بأنه ملعون ، لأن الله تعالى قال : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) قال : ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه أنه في النار . ولما توفيت آمنة قدمت أم أيمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى عند عبد المطلب بعد خمسة أيام فضمه إليه ، ورق عليه رقة لم يرقها على أحد من ولده فكان إذا أتى بطعام أجلسه إلى جنبه وربما أقعده على فخذه وكان يقول : إن لابني هذا شأناً ، ولما صار له صلى الله عليه وسلم من العمر سبع سنين أصابه رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن عنه ، فأخذه عبد المطلب وسار إلى عكاظ ، وكان دير قريب منها وفيه راهب يحسن معالجة الرمد ، فدنا منه عبد المطلب ، وكان الدير مغلقاً فنادى الراهب فلم يجبه ، فتزلزل الدير فخاف الراهب سقوطه فخرج مبادراً ، فقال : يا عبد المطلب ، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج لخر عليّ ديري ، فارجع به واحفظه ، ثم عالجه وعاد به عبد المطلب إلى مكة ومات عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين وشهرين ، وعاش عبد المطلب خمساً وتسعين سنة ، وقيل : مائة وأربعين . وذكر الدمياطي : أنه اثنتان وثمانون سنة ، وعن أم أيمن : أنه كان صلى الله عليه وسلم يبكي خلف سرير عبد المطلب ، وهو ابن ثمان سنين ودفن بالحجون عند قصي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يبعث جدي عبد المطلب في زي الملوك " ولما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب واسمه عبد مناف فكفله ، وقيل : الزبير رضي الله عنه وقيل : كفلاه معاً ، ومات الزبير ولرسول الله من العمر أربع عشرة سنة ، وقيل : نيف وعشرون سنة ، ومات أبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل : بسنة وعمره سبع وثمانون سنة ، وكان مصدقاً بنبوته صلى الله عليه وسلم ومصدقاً بالوحدانية ، وإنما منعته الأنفة والحمية الجاهلية . ومن شفقته على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فقده يومين فشق عليه ذلك ، وظن أنهم اغتالوه ، فالتمسه فلم يجده ، فدعا أهله وأقاربه ، وأعطى كل واحد سكيناً وقال لهم : ليجلس كل واحد منكم إلى جنب رجل من قريش ، وأنا أصعد هذا الجبل أدور على محمد فإن وجدته فلا يحدث أحد منكم شيئاً ، وإن نعيته لكم فليضرب كل منكم من بجانبه ، ونثيرها حرباً ، ثم صعد فوجده فقال : يا ابن أخي ظننت أنك قتلت وكدت أفتك في قومك ، فأعلمني إذا خرجت إلى أي مكان تريد ، فقال له : يا عم ألا أريك معجزة، فإني أحب أن يسعدك الله مما بعثت به? ثم دعا صلى الله عليه وسلم شجرة هناك فجاءت إليه، فقال: يا عم خذ من غصونها، ثم قال لها: عودي، فعادت، فقال: يا ابن أخي لهذا يقول لك قومك إنك ساحر . ثم أخذ بيده ، وأقبل به ينادي إلى نادي قريش ، فظنوا أنه يريد أن يسلمهم إياه . ثم قال لهم : قد كنت أراكم قتلتموه ، ورب هذا البيت لئن كنتم فعلتم لقتل كل واحد من هؤلاء جليسه ، أخرجوا شفاركم فأخرجوها ، فلما رأت قريش ذلك يئسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شعر أبيات أبي طالب فيه قوله :
ألا بلّغنا عنّي على ذاتِ بـينـنـا ... لوياً وخصّا ، من لؤيٍّ بني كعبِ
بأنّا وجدنا في الكتابِ مـحـمّـداً ... نبيّاً كموسى خطَّ في أوّلِ الكتبِ
ولكن أبا طالب خشي أن يعير بإسلامه ، ولعل تلك المواقف تنفعه ، والصحيح أنه مات كافراً ، وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم سينفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم فيوضع في نار قليلة ، ثم بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام توفيت خديجة ، رضي الله عنها ، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وظهر الضعف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ، فنالت منهم الكفار ما لم تكن قبل ذلك تصل إليه ، قال علي رضي الله عنه : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت قريش تتجاذبه وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً قال : فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه فصار يضرب هذا ويدفع هذا ، ويقول : أتقتلون رجلاً يقول ربي الله ? ولما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون : لقد انتصف القوم منا . رواه ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضاً : لما أسلم عمر نزل جبرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر رضي الله عنه ، وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب . وعن صهيب : لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقاً ، وقيل : لما أسلم عمر رضي الله عنه وثب عليه عتبة بن ربيعة فألقاه عمر رضي الله عنه على الأرض وبرك عليه ، وجعل يضربه وأدخل إصبعيه في عينيه ، فجعل عتبة يصيح ، وصار لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشراً سيفه ، وهي أطراف أضلاعه ، وما زال الإسلام يعلو وينمو ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .
وذكر في " كشف الأسرار " قوله : لم رباه صلى الله عليه وسلم يتيماً ? قيل : لأن الأساس كل كبير صغير ، وعقبى كل حقير خطير ، وأيضاً لينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه إلى أوائل أمره ليعلم أن العزيز من أعزه الله تعالى وأن قوته ليست من الآباء والأمهات ، ولا من المال ، بل قوته من الله تعالى وأيضاً ليرحم الفقراء والأيتام ، ودل على ذلك قوله تعالى : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ) وفي الكتب القديمة : إن من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم موت أبيه وهو حمل ، وموت أمه وكفالة جده وعمه ، وما أحسن قول الجمال بن نباتة شعراً :
ودعاهُ في الذّكرِ اليتيمِ وإنّما ... أسنى الجواهرَ ما يقالُ يتيمُ
وذكر في " المصابيح " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه " وذكر في " شرح ذات الشفاء " أن الشيعة تقول : اسم أبي طالب عمران ليكون قوله تعالى : ( وآل عمران ) أي فيه نزلت ، وعموا عن قوله تعالى : ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً ) قاتلهم الله أنى يؤفكون . فوا أسفاً عليه ، لم يكن فيه خصلة مذمومة غير الشرك فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ومن شعر أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم يخاطب النجاشي فيه :
تعلّم خيارَ الناسِ أن مـحـمّـداً ... نبيٌّ كموسى والمسيح ابن مريم
أتى بالهدى مثل الذي أتـيا بـهِ ... بصدقِ حديثٍ لا حديثَ المترجم
وإنّكم تلونه فـي كـتـابـكـم ... بصدقِ حديثٍ لا حديثَ المترجم
فلا تجعلوا الله ندّاً وأسـلـمـوا ... فإن طريقَ الحقِّ ليس بمظلـمِ
وهذا يدل على تصديقه بنبوته صلى الله عليه وسلم وإقراره بوحدانية الله تعالى .
المرجع
الروضة الفيحاء في أعلام النساء – ابن الخطيب العمري
آمنة ، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، بن كلاب ، وهي أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عبد الله بن عبد المطلب وعمره خمس وعشرون سنة ، وقيل ثلاثون سنة ، وكانت آمنة في حجر عمها أهيب لأن أباها قد مات فأتى عبد المطلب إلى أهيب ، وخطب ابنته هالة لنفسه ، فزوجه إياها ، وخطب آمنة بنت وهب لولده عبد الله ، فزوجها له في مجلس واحد .
وذكر في " شرح ذات الشفا " قال أهل السير : خرج عبد المطلب ومعه ولده عبد الله ، وكان أحسن رجل في قريش خلقاً وخلقاً ، وكان نور النبوة ظاهراً في وجهه ، فخرج مع أبيه ليزوجه ، فمر بامرأة منه بني أسد بن عبد العزى وهي أخت ورقة بن نوفل ، وكانت قد سمعت من أخيها بقرب ظهور النبي الأمي العربي وأن علامة أبيه نور في غرته ، فلما رأت عبد الله وقع في قلبها أنه هو ، فقالت له : يا عبد الله لك مثل الإبل التي نحرت عنك ، وقع علي الآن ، فأبى عبد الله ، وأنشد :
أما الحرامُ فالممـاتُ دونـه ... والحلُّ لا حلَّ فأستبـينـه
فكيفَ بالأمرِ الذي تبغـينـه ... يحمي الكريمُ عرضهُ ودينه
وكان اسم هذه المرأة رقية ، وقيل : فاطمة بنت مر الخثعمية ، وكانت من أجمل النساء وأعفهن فدعته إلى نكاحها فظن أنها تريد الحرام ، فأنشد بما قال ، وأما قولها : لك مثل الإبل التي نحرت عنك ، وذلك أن عبد المطلب لم يكن له ولد إلا الحارث ، فجرت بينه وبين عمه عدي مخاصمة ومجاورة فعيره بقلة العدد فغضب عبد المطلب وقال : لله علي لئن رزقني الله تعالى عشرة ذكور أن أجعل أحدهم نذراً نحيرة . ثم افترقوا فلما مضت من الدهر أعوام ، ولد لعبد المطلب عشرة أولاد ذكور سوى الحارث ، وست بنات ، فلما بلغ الذكور عشرة قال : لابد من الوفاء فجمعهم ، وأقبل إلى الكعبة فأحال عليهم القداح فخرجت القدح على عبد الله ، وكان يحبه ، فأخذ بيده ، وجاء به إلى إساف ونائلة فأضجعه وربطه ، فبلغ ذلك أخواله بني مخزم فجاءوه في جماعة من قريش ، فقالوا : ما هذا الذي تفعل ، والله ما أحسنت عشرة أمه ثم تريد نحر ولدها ، فارتحل نحو الحجاز فإن من أهله عرافة عالمة ، ولها تابع من الجن ، ففعل عبد المطلب ، ورحل معهم فأتوها وأعطوها رشوتها ، وأخبروها ، فقالت : انصرفوا وأحضروا إبلاً وصاحبكم واستقسموا على عشرة من الإبل وعليه حتى تبلغوا رضى ربكم . فعادوا راجعين إلى مكة ، فأوقفوا عشرة من الإبل وعبد الله ، ودعوا صاحب الأزلام فاستقسم على عبد الله والإبل فخرجت على عبد الله ، فزادوا عشرة فوقعت على عبد الله ، فلم يزل يزيد عشرة عشرة حتى بلغت الإبل مائة ، فخرج القدح على الإبل ، وفعل ذلك ثلاث مرات ، وهي تقع على الإبل ، فخلى عن عبد الله ، ونحرت الإبل لا يدفع عنها طائر ولا سبع ولا إنس ، ولذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن الذبيحين " يعني بهما إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله .
ولما أتى عبد المطلب أهيب عمها ، وقيل أبوها وهب ، وخطب منه آمنة لعبد الله فزوجه إياها ، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً فدخل بها عبد الله ، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل ذلك النور إليها ، وكان ذلك يوم الإثنين ، في شعب أبي طالب ، عند الجمرة الوسطى ، وقيل : إن عبد الله بعد ما دخل على آمنة أتى المرأة التي عرضت نفسها عليه ، فقال لها : مالك لا تعرضي علي ما عرضت بالأمس ? فقالت له : فارقك النور الذي كان معك ، فما لي بك حاجة .
وقال الكلبي رضي الله عنه ثبت عندي للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم من قبل أمه وأبيه فما وجدت فيهن سفاحاً . وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ صلى الله عليه وسلم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) بفتح الفاء ، وقال : " أنا أنفسكم نفساً وصهراً وحسباً ، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح ، كلها نكاح " .
وعن العباس رضي الله عنه قال : قال والدي عبد المطلب قدمنا اليمن فنزلنا على حبر من اليهود ، فقال : ممن الرجال ? فقلت : من قريش . قال : من أيهم ? قلت : من بني هاشم . قال : أتأذن لي أن أنظر بعضك ? قلت : نعم ، قال : ففتح إحدى منخري ، فنظر فيه ثم نظر في الأخرى ، فقال : أشهد أن في إحدى منخريك ملكاً وفي الأخرى نبوة ، وإنما نجد ذلك في بني زهرة ، فكيف ذلك ? قلت : لا أدري . قال : هل من شاعة ? يعني زوجاً منهم لأنها تشايع زوجها وتناصره ، قلت : أما اليوم فلا ، لي زوجة منهم ، فقال : إذا تزوجت فتزوج منهم ، فلما رجع عبد المطلب تزوج هالة بنت وهب ، وزوج عبد الله آمنة بنت وهب ، فولدت هالة الحمزة رضي الله عنه ، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : إن الحبر قال لعبد المطلب : أرى ملكاً ونبوة ، وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي ، وعبد مناف بن زهرة ، واختلف في وقت حمل آمنة به صلى الله عليه وسلم فقيل : إنها حملت به يوم الاثنين من رجب ، وقيل أيام منى ، والأول منطبق على القول بأن ميلاده صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول ، والقول الثاني موافق لما ذهب أن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، وكانت آمنة تقول : ما شعرت أني حملت به ، ولا وجدت له ثقلاً كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي ، وربما كانت ترفع عني وتعود ، وقالت آمنة : أتاني آت وأنا بين النائمة والياقظة فقال : هل شعرت أنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها ? وأمهلني حتى دنت ولادتي فأتاني فقال : قولي إذا ولدته ، أعيذه بالواحد الصمد من شر كل حاسد ، يأخذ بالمراصد ، ثم سميه محمداً ، فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد يحمده أهل السماء والأرض ، وفي القرآن محمد وفي رواية أخرى : اسمه أحمد ، وقالت آمنة : أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام . وقال لي : يا آمنة إنك حملت بخير العالمين . فإذا ولدته فسميه محمداً ، واكتمي شأنك ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان من دلالة حمل آمنة أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً ، وعن كعب الأحبار : أن صبيحة تلك الليلة أصبحت أصنام الدنيا منكوسة . وقال أهل السير : وكانت السنة مجدبة والناس في ضيق ، وشدة فاخضرت الأرض ، وحملت الأشجار ، وأتاهم الرفد من كل جانب فسميت سنة الفتح والابتهاج ، وفي الحديث : " أن الله تعالى قد أذن تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكوراً " كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وذكر الحافظ النيسابوري : أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار إلى عبد الله كان يضيء في غرته وتفوح من فمه رائحة المسك الأذفر ، وكانو يستسقون به فيسقون . ونام في الحجر فانتبه مكحولاً مدهوناً قد كسي حلل المهابة ، والجمال ، فتحير ولم يدر من فعل به ذلك ، فانطلق به أبوه إلى كهنة قريش ، فقالوا : إن إله السموات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج ، ونام مرة أخرى في الحجر فرأى رؤيا فقصها على الكاهن ، فقالوا : لئن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض ، وليكونن للناس علماً مبيناً ، هذا الذي ذكره شارح الهمزية . وقال أيضاً : ولما حملت به آمنة ظهرت عليها الأنوار ، وكسيت أثواب البهاء والجمال، وهتفت بها الهواتف بالبشارات ، وقيل : إن راهباً كان بمر الظهران وهو مكان بمكة ، كان يقول : يوشك أن يولد منكم يا أهل مكة مولود اسمه محمد تدين له العرب ، ويملك العجم ، وهذا زمانه ، فكان لا يولد مولود إلا سئل عنه حتى ولد صلى الله عليه وسلم وأخبر الراهب جده بولادته فقال : سميه محمداً وقد طلع نجمه البارحة ، وعن عائشة رضي الله عنها ، أنه كان بمكة يهودي فصاح ليلة ولادته : يا أهل مكة هل ولد فيكم الليلة مولود ? فقالوا : لا نعلم . فقال : ولد الليلة نبي الأمة الأخيرة ، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس ، فأدخلوه على أمه آمنة لما ولد صلى الله عليه وسلم وكشف له عن ظهره فرأى تلك العلامة فخر مغشياً عليه ثم أفاق ، فقال : ذهبت النبوة من بني إسرائيل .
ومن آيات حمله صلى الله عليه وسلم ما كانت تراه أمه وأبوه وجده من الرؤيا الصادقة ، ولما حملت به أخبرت الكاهن بقرب ظهوره ، وطلوع كوكب نوره ، ومنها ما سمعته قريش من الهواتف على الحجون شعراً :
فأقسمُ ما أنثى منَ النَّاسِ أنجبـت ... ولا ولدت أنثى من النَّاسِ واحدة
كما ولدت زهريّة ذاتَ مفخرٍ ... مجنَّبةً لؤمَ القبائلِ مـاجـدة
ومنها أنه كان يسمع كل شهر من شهور حمله : أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم مباركاً ميموناً .
ومنها أن نودي في الملكوت ، أن النور المكنون قد انتقل إلى بطن أمه آمنة ذات العقل الباهر والفضل الظاهر ، ولما صار لآمنة شهران من حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد المطلب ولده عبد الله أن يسافر إلى غزة من أرض الشام ، ليأخذ لهم ما يحتاجون من لباس وطعام وغير ذلك ، فسار مع التجار ، واشترى لهم طعاماً وثياباً وغير ذلك ، ولما عاد التجار عاد معهم عبد الله ، فتمرض بالطريق ، ولما وصلوا إلى المدينة ثقل بعبد الله المرض فتخلف بها عند أخواله بني عدي بن النجار ، ولبث في المدينة أياماً ومات ودفن هناك وله من العمر ثلاثون سنة ، ولما بلغ خبر وفاته إلى عبد المطلب وجد عليه وجداً شديداً ، وحزن عليه وبكى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حملاً في بطن أمه ، وذلك بعد شهرين ، فعلى رواية أنه تزوج عبد الله بآمنة في رجب وولد صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول ، فتكون وفاة عبد الله في أوائل رمضان ، وخلف عبد الله جاريته أم أيمن وخمسة جمال ، وقطعة غنم ، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد نقل الإمام أبو حيان في تفسيره : أن جعفر الصادق قيل له : لم يتم صلى الله عليه وسلم من أبويه ? قال : لئلا يكون عليه حق المخلوقين ، وقال ابن العماد في " كشف الأسرار " إنما رباه يتيماً لينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه وإلى أوائل أمره فيعلم أن العزيز من أعزه الله ، وأن قوته ليست من الآباء والأمهات ، ولا المال ، بل قوته من الله تعالى وأيضاً ليرحم الأيتام والفقراء .
واختلف في مدة حمله صلى الله عليه وسلم فقيل : تسعة أشهر وقيل عشرة أشهر ، وقيل : سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : ستة أشهر وذكر في " السيرة الحلبية " كان حمله ووضعه في ساعة واحدة ، وقيل في ثلاث ساعات ، كما قيل في ولادة عيسى عليه السلام وهذا غير صحيح ، واختلف في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم فالجمهور على أنه ولد في شهر ربيع الأول ، قال ابن كثير والحافظ ابن حجر ، وهذا هو الصحيح ، وأنه ولد يوم الاثنين لاثنتي عشر ليلة من ربيع الأول وبه جزم ابن إسحاق وتبعه ابن سيد الناس ، ورواه ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما هكذا ذكره في " التبيين في أنساب القرشيين " وقيل : ولد في ثاني ربيع الأول ، وقيل : في ثامنه ، وبهذا قال ابن حجر : أنه مقتضى أكثر الأخبار : وقيل : في عاشره ، رواه الدمياطي عن جعفر الصادق وصححه ، وقيل : لسبع عشرة منه ، وهذا الذي رواه ابن أبي شيبة وهو حديث معلول ، وقيل : لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول ، وقيل في صفر ، وقيل في ربيع الآخر ، وقيل في رجب ، وقيل في رمضان ، وقيل في يوم عاشوراء كعيسى عليه السلام وقيل : لخمس بقين من محرم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين من ربيع الأول ، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين من ربيع الأول ، وهاجر يوم الاثنين من ربيع الأول ، وأنزلت عليه سورة البقرة يوم الاثنين من ربيع الأول ، وتوفي يوم الاثنين من ربيع الأول . وقال بعضهم : هذا غريب جداً ، وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلاً ، ويؤيده ما رواه عثمان بن عفان بن أبي العاصي عن أمه أنها شهدت ولادة النبي ، صلى الله عليه وسلم ليلاً ، قالت : فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نوراً أو أني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول علي ، وقال ابن دحية : هذا حديث مقطوع . وفي الحديث الصحيح أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال : " فيه ولدت " . وهذا ما رواه ابن عباس وقال أصحاب الإشارة : قوله تعالى : ( والضحى والليل إذا سجى ) إشارة إلى ليلة مولده صلى الله عليه وسلم أو ليلة معراجه وروى الحافظ ابن عساكر أن ولادته كانت حين طلوع الفجر ، ويؤيد ذلك قول عبد المطلب : ولد لي الليلة مع الصبح مولود . وعن سعيد ابن المسيب أنه ولد صلى الله عليه وسلم عند إبهار النهار ، وذلك في وسطه ، وقال ابن سعيد رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأت أمي حين وضعت سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى " ، وكان مولده ، صلى الله عليه وسلم في فصل الربيع في شهر نيسان لعشرين ليلة خلت منه ، وقيل : في برج الحمل : وفي بعض الأقاويل :
يقولُ لنا لسانُ الحـالِ مـنـهُ ... وقولُ الحقِّ يعذبُ للسّـمـيعِ
فوجهي والزَّمانُ وشهرُ وضعي ... ربيعٌ في ربيعٍ فـي ربـيعِ
وذكر في كتاب " التبيين " كان وضعه صلى الله عليه وسلم في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج ، وكانت قبل داراً لعقيل ابن أبي طالب ، ولم تزل بيد أولاده إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف بمائة ألف دينار . وقيل : إن الأصح كان مولده بمكة ، وهم يزورونه في كل عام ، وقيل في شعب بني هاشم وفي كلام ابن دحية ، أن الدار التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم لما حجت الخيرانة أم الرشيد أخرجتها من دار محمد بن يوسف ، وبنتها مسجداً ، وقيل : إن تلك الدار عند الصفا بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجداً لما حجت ، وقيل : ولد في الردم ، أي ردم بني جمح ، ويعرف الآن بالمدعى لأنه يؤتى فيه الدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة ، وقيل : في شعب أبي طالب ، ومما نص عليه بعض الفقهاء ، أنه يجب على الولي أن يعلم ولده إذا ميز أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة ومات بالمدينة ، واختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم فقيل في عام الفيل . وقيل : في يومه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : ولد صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ، وعن قيس بن مخرامة : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل ضحى ، وفي " تاريخ ابن حبان " : ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل في اليوم الذي بعث الله الطير الأبابيل على أصحاب الفيل . وذكر في " تاريخ المؤيد " أنه ولد يوم العاشر من ربيع الأول عام الفيل ، وذلك بعد الفيل بخمسين يوماً ، لأن الفيل كان في منتصف المحرم ، وهذا هو المشهور ، وقيل : ولد بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً ، وقال بأربعين ، وقال بشهر ، وقيل بعشر سنين ، وقال بثلاث وعشرين سنة ، وقيل : بثلاثين سنة ، وقيل بأربعين سنة ، وقيل : بسبعين سنة .
وذكر الحافظ الدمياطي : أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً ، وهو الأصح وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري ، لا يشك فيه أحد من العلماء ، وعليه الإجماع ، وقيل : أنه ولد صلى الله عليه وسلم قبل عام الفيل خمسة عشر عاماً ، وهذا غريب منكر ضعيف وقال الحافظ النيسابوري : كان نور النبوة في وجه عبد المطلب يضيء كالغرة ، وكانت قريش إذا أصابهم جذب أخذوا بيد عبد المطلب وصعدوا به إلى جبل ثبير يستسقون فيه فيسقون ببركة ذلك النور .
وقصة أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم ملك الحبشة بنى له كنيسة في اليمن ، وأمر الناس بالحج إليها كالكعبة ، وزخرفها وجعل فيها صلبان الذهب والفضة ، ومنابر العاج ، والأبنوس ، ثم إن بعض العرب من كنانة دخل الكنيسة ، وتغوط فيها ولوث جدرانها بالعذرة ، ولطخ قبلتها فحلف أبرهة ليهدمن من الكعبة فسار بعسكره إلى الكعبة ومعه أفيال ، وأعظمها فيه المسمى المحمود ، فقاتل العرب وأسرهم ، وتقدم ونزل قريباً من الطائف ، وأرسل خيله ونهبت إبل قريش ، وفيها لعبد المطلب أربعمائة ناقة : وتحصنت قريش بجبال مكة ، فجاء رسول أبرهة إلى عبد المطلب ، وأخبره إنما جاء الملك لهدم البيت ، فقال عبد المطلب : للبيت رب سوف يحميه ، وسار عبد المطلب مع الرسول إلى أبرهة فأكرمه وأجلسه معه على السرير ، فقال لترجمانه : قل له ، فيا أتيت ? فقال : بطلب الجمال والخيل ، فقال له : الجمال والخيل وتركت هدم البيت ? فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وأما البيت فله رب إن شاء منعه . فقال أبرهة : ما كان ليمنعه مني ثم انصرف عبد المطلب بجماله وخيله وصعد على الجبل ، وأحاطت عساكر أبرهة بالحرم ، فأقبل عبد المطلب وأخذ بأذن الفيل محمود ، وقال له : أبرك محموداً فهذا بيت الله وحرمه فبرك محمود عند وادي محسر فصاروا يضربونه فلا يقوم فوجهوه إلى اليمن فهرول ، وكذا إلى الشام ، وسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم يفد ذلك ، وكان عبد المطلب قد دخل البيت فأخذ بحلقة الباب ، ومعه نفر من قريش فقال :
لاهمَّ إنَّ المرءَ يمنعُ رحلهُ ... فامـنـع رحـالــك
فامـنـع رحـالــك ... وعابـديه الـيومَ آلـك
لا يغلبـنَّ صـلـيبـهـم ... ومحالهم أبداً محـالـك
ثم صعد بهم إلى رؤوس الجبال ، ولم تزل الحبشة تضرب رأس الفيل محمود ومراقه لينهض نحو البيت ، وهو لا يفعل حتى أرسل الله عليهم الطير الأبابيل مع كل طير ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه ، كل حجرة بقدر العدسة يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ، ويتساقط لحمه ، ولما أحس أبرهة بالشر ركب في نفر من أصحابه وسار على وجه ، والطيور على رؤوسهم مثل الخطاطيف ، فجعلت ترمي واحداً واحدا وهم يتساقطون في الطرق ، ورمت أبرهة فجعل يتساقط جسده شيئاً فشيئاً حتى هلك ، ولم ينج منهم سوى واحد دخل على النجاشي فأخبره بالخبر والطير على رأسه ، فلما فرغ ألقى عليه الحجر ، فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم . وعظمت قريش ، وتمزقت الحبشة ، وبقيت كنيسة أبرهة خربة حولها الوحوش والحيات .
وذكر في " حياة الحيوان " أن الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض . وذكر في " المعالم " أن عبد المطلب لما دخل البيت ، أخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
يا ربَّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربِّ فامنع منهم حماكا
إنَّ عدوَّ البيتِ من عاداكـا ... امنعهم أن يخرّبوا قراكا
وذكر فيه أيضاً : أن النجاشي ملك الحبشة بعث إلى أرض اليمن رجلاً اسمه أرياط فملك اليمن ثم ظهر أبرهة ، وقتل أرياط واستولى على اليمن من قبل النجاشي ، فكان منه ما كان وبعث الله إلى أبرهة داء في جسده فجعلت تتساقط أنامله ، كلما سقطت أنملة تبعها دم وقيح حتى وصل إلى صنعاء ، وعجل الله بروحه إلى النار .
وقال مقاتل : كان معهم فيل واحد ، وقال الضحاك : ثمانية ، وقيل : إثنا عشر سوى الفيل الأعظم . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانت طير أبابيل لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب ، وقال عكرمة : لها رؤوس كرؤوس السباع ، وقال الربيع : لها أنياب كأنياب السباع ، وقال سعيد بن جبير : طير خضر لها مناقير صفر ، وقال قتادة : طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجران في رجليه وحجر في منقاره ، لا يصيب شيئاً إلا هشمه ، وقالت عائشة ، رضي الله عنها : أدركت قائد الفيل وسائقه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
وفي " تاريخ ابن الوردي " أن بين هبوط آدم عليه السلام ومولده صلى الله عليه وسلم ستة آلاف وثلاثاً وستين سنة . وفي " أخبار الدول " عن الشيخ محيي الدين يروي عن ابن عباس : أنه كان من آدم عليه السلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وخمسمائة وخمس وسبعون سنة .
وذكر محمد بن جرير الطبري : أن من آدم إلى انقضاء الخلق سبعة آلاف سنة ، ويؤيده ما روي في الحديث " أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأن في آخرها ألفاً " وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قال : " مضى من الدنيا ستة آلاف وسبعمائة " وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ كم خلق الدنيا ؟ فقال : " أخبرني ربي عز وجل أنه خلقها منذ سبعمائة ألف سنة إلى اليوم الذي بعثني فيه رسولاً إلى الناس " وذكره البلخي وقال : يدل على ذلك ما جاء في الخبر ، أن إبليس عبد الله تعالى قبل أن يخلق آدم بخمسة وثمانين ألف سنة ، وأنه خلق بعدما خلقت السماوات والأرض من المدد ما شاء الله تعالى وجاء في الحديث " أن كل شيء خلقه الله تعالى كان قبل آدم ، وأن آدم بعد إيجاد الخلق لأن خلق آخر الأيام ، التي خلق فيها الخلق " وزعم بعضهم أنه كان قبل آدم في الأرض خلق لهم لحم ودم ، قيل : إنهم كانوا خلقاً ، فبعث إليهم نبياً اسمه يوسف فقتلوه ، وكان إبليس منهم فأسره الملائكة فعاش فيهم وصار يتخلق بأخلاقهم إلى أن كان من أمره ما كان ، وعاد إلى فطرته .
وذكر في " تاريخ ابن الوردي " أن بين مولد النبي صلى الله عليه وسلم وبين رفع عيسى عليه السلام خمسمائة وخمساً وأربعين سنة ، وفيه أيضاً أن في سنة أربع وعشرين من ملك كسرى ولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم وولد صلى الله عليه وسلم في سنة اثنتين وأربعين من ملك كسرى وعلى هذا يكون سن عبد الله حين تزوج بآمنة ثماني عشرة سنة ، وهو مخالف لما ذكر ، أنه ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وولد أبوه قبل الفيل بخمس وعشرين سنة . وذكر في " شرح ذات الشفاء " روى أبو النعيم أنه أتى إلى آمنة آت بعد ستة أشهر من حملها وقال : يا آمنة إنك حملت بخير العالمين ، فإذا وضعته فسميه محمداً ، واكتمي شأنك ، ولما أخذها الطلق وكانت وحدها رأت كأن طائراً أبيض مسح فؤادها ، فذهب رعبها ، وأتيت بشربة بيضاء فتناولتها وغشيتها الأنوار ، ورأت نسوة طوالاً أحدقن بها فقلن لها : نحن ، آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وهؤلاء الحور العين ، ورأت ديباجاً أبيض مد بين السماء والأرض ، ورجالاً بأيديهم أباريق فضة ، وقطعة من الطير أقبلت حتى غطت حجرتها ، مناقيرها من الزمرد ، وأجنحتها من الياقوت ورأت مشارق الأرض ومغاربها ، وعلماً بالمشرق وعلماً بالمغرب ، وعلماً على ظهر الكعبة فأخذها النعاس فوضعته صلى الله عليه وسلم ساجداً ، رافعاً إصبعيه إلى السماء كالمتضرع ، ورأت سحابة بيضاء غشيته ، صلى الله عليه وسلم ثم ذهب عنها ، وسمعت منادياً يقول : طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها ، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ، ونعته وصورته ، ويعلموا أنه ماحي الشرك ، ثم تجلت عنه وقد قبض صلى الله عليه وسلم على حريرة بيضاء مطوية طياً شديداً ينبع منها الماء ، وسمعت قائلاً يقول : بخ بخٍ قبض محمد على الدنيا كلها ، فلم يبق أحد ورأت ثلاثة نفر بيد أحدهم ، أبريق فضة ، والثاني : طشت من زبرجد خالص ، والثالث : حريرة بيضاء ، أخرج منها خاتماً يحار به الناظرون ، فغسله سبع مرات ثم ختم به بين كتفيه ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ، ثم رده إلى أمه ، كذا ذكره في " شرح الهمزية " .
وروي عن آمنة أنها قالت : لما أخذني ما يأخذ النساء وإني لوحيدة في المنزل ، رأيت نسوة كالنخل طولاً ، كأنهن من بنات عبد مناف ، وفي رواية من بنات عبد المطلب . ما رأيت أضوأ منهن وجوهاً وكأن واحدة منهن تقدمت فاستندت إليها ، وأخذني المخاض ، واشتد علي الطلق ، وكأن واحدة منهن تقدمت إلي وناولتني شربة من الماء فشربت ، وقالت الثالثة : ازدادي . فازددت ثم مسحت بيدها على بطني ، وقالت : بسم الله اخرج بإذن الله ، وقلن لي : نحن آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وهؤلاء من الحور العين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن آمنة سمعت منادياً ينادي طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها ، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ، وفي رواية : أنها رأت سحابة عظيمة لها نور ، سمعت فيها صهيل الخيل ، وخفقان الأجنحة ، وكلام الرجال أقبلت فغشيته صلى الله عليه وسلم وغيب عنها فسمعت منادياً ينادي : طوفوا بمحمد مشارق الأرض ومغاربها واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش .
وعن عبد المطلب قال : كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت وخرت سجداً ، وسمعت صوتاً من جدار الكعبة يقول : ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار ويطهر من عبادة الأصنام ، ويأمر بعبادة الملك السلام .
وأخرج أبو نعيم حديث الشفاء ، أم عبد الرحمن ، قالت : لما ولد صلى الله عليه وسلم وقع على يديه ، فاستهل فسمعت قائلاً يقول : رحمك الله ورحم بك ، فقالت : فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى بعض قصور الروم ، ثم أضجعته ، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة ، ثم أسفر عن يميني ، وسمعت قائلاً يقول : أين ذهبت به ? قال : إلى المغرب ، وأسفر ذلك عني ، ثم عاودني عن يساري فسمعت قائلاً يقول : أين ذهبت به ? قال : إلى المشرق ، قالت : فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعثه الله ، فكنت في أول الناس إسلاماً . وروي عن آمنة أنها قالت : رأيت كأن شهاباً خرج مني .
وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم لما وقع على الأرض وقع مقبوضة أصابع يده مشيراً كالمسبح بها ، وفي رواية عن ابن سعد : وقع على يده رافعاً رأسه إلى السماء وقبض قبضة من تراب فبلغ ذلك بعض العرب فقال : لئن صدق الفال ليغلبن هذا المولود أهل الأرض ، وفي رواية : أنه صلى الله عليه وسلم وقع على كفيه وركبتيه شاخصاً بصره إلى السماء . وروى ابن الجوزي عن ابن البراء قال : قالت آمنة : وجدته جاثياً على ركبتيه ينظر إلى السماء ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجداً .
وفي " شرح البخاري " أنه صلى الله عليه وسلم تكلم أول ما ولد . وذكر صاحب " الخصائص " : أن مهده صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بتحريك الملائكة ، وأن أول كلامه قوله : الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً . وذكر في السير : ورأت آمنة عند ولادته نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام ، وفي رواية : حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى . وإلى ذلك أشار عمه العباس بقوله من أبيات :
وأنتَ لمّا ولدتَ أشـرقـتِ ال ... أرضُ وضاءت بنورك الأفقُ
فنحنُ في ذلكَ الضّـياءِ وفـي ... النُّورِ سبيلَ الرّشادِ نختـرقُ
وذكر أهل السير : أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى وانشق وانصدع وسقط منه أربع عشرة شرفة ، وكان له شرفات كثيرة ، فلما أصبح كسرى أجزعه ما رأى فجمع وزراءه يتحدثون في شأن الإيوان فجاءهم الخبر بخمود النيران ولم تكن تخمد من ألف عام ، فازدادوا غماً ، ودخل عليهم المؤبذان عالم الفرس وخادم النيران ، وقص عليهم رؤيا رآها وهي كأن إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد عبرت دجلة وانتشرت في بلادهم ، ثم ورد على كسرى كتاب صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر في بحريتها ثم ورد كتاب صاحب الشام يخبره بإفاضة وادي سماوة ، فلما رأى ذلك كسرى داخله الفزع والجزع فأرسل إلى النعمان يأمره أن يرسل رجلاً من علمائهم ، فأرسل له بعد المسيح الغساني وعمره مائة وخمسون سنة ، فلما دخل على كسرى حدثه بما رآى وما سمع ، فدله على خاله سطيح وهو بالشام ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثمائة سنة ، وقيل : سبعمائة ، وكان جسداً بلا جوارح وكان وجهه في صدره ، وليس له رأس ولا عنق ، وهو مثل الضرف تطوى رجلاه ويداه ، وإذا أريدت أخباره يحرك فينفتح ويمتلئ ويعلوه النفس ، ويجلس إذا غضب ، فيخبر عما يسأل وهو أول كاهن في العرب ، فأمر كسرى عبد المسيح بالمسير إلى سطيح ، فسار ولما دخل على سطيح ، ناداه سطيح : يا عبد المسيح أقبل على جمل مشيح إلى سطيح ، وقد وافى على الضريح ، بعثك ملك ساسان لاتجاج الإيوان وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلاً صعاباً ، تقود خيلاً عراباً ، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهرواة ، وغاضت بحيرة سماوة وخمدت نار فارس ، فليست بابل للفرس مقاماً ولا الشام لسطيح شاماً ، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آتٍ آت . ثم مات سطيح من ساعته ، فنهض عبد المسيح بعد موت سطيح إلى راحلته ، وجعل ينشد ويقول شعراً :
شمّر فإنَّكَ ماضي العزمِ شمّـيرُ ... ولا يغرّنّكَ تفريقٌ وتـغـييرُ
والنّاسُ أولادُ علاّتٍ فمن علموا ... أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجـورُ
وهم بنوا ألامّ إمّا أن رأوا نشبـاً ... فذاك بالغيبِ محفوظٌ ومنظور
والخيرُ والشّرُ مقرونانِ في قرنِ ... فالخيرُ متّبعٌ والشّرُّ محـذورُ
وسار فلما دخل على كسرى أخبره بما قال له سطيح ، فقال كسرى : إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً كانت أمور وأمور ، فملك منهم عشرة في أربع سنين ، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وقول سطيح ، ملكات ، المراد بها : بوران وأختها أرزمي بخت بنتا برويز كسرى .
ومن آيات مولده صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه ولد مسروراً أي مقطوع السرة وعن أنس رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من كرامتي على ربي أن ولدت مختوناً ، ولم ير أحد سوأتي " وعن عكرمة رضي الله عنه أن إبليس لعنه الله ، لما ولد صلى الله عليه وسلم ورأى تساقط النجوم ، قال : لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا ، ثم أمر أولاده أن يأتوه بتربة ، من كل أرض وهو يشمها فلما شم تربة تهامة : قال : من ههنا دهينا . وذكر في تفسير " ابن مخلد " رن إبليس أربع رنات ، أي صوّت صوت كآبة وحزن ، رنة حين لعن ، ورنة حين أهبط ، ورنة حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ورنة حين نزلت الفاتحة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يهودياً صاح في تلك الليلة على أطمة أي مكان عالٍ يا معشر اليهود ، فأقبلوا عليه فقالوا : ما بالك ? فقال : طلع نجم أحمد الذي ولد هذه الليلة ، وقيل : لما ولد صلى الله عليه وسلم لم يرضع لليلتين ، قيل : أن عفريتاً من الجن وضع يده على فمه صلى الله عليه وسلم ولما رآه ذلك اليهودي خر مغشياً عليه ، وقال : ذهبت النبوة من بني إسرائيل ، أما والله ليسطون عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب ، وتزلزلت الكعبة ثلاثة أيام بلياليها ، ولم تسكن حتى ولد صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يناغي القمر في مهده ويحدثه . ويروى عن العباس رضي الله تعالى عنه قال : دعاني إلى الدخول في دينك رأيتك تناغي القمر فتشير إليه ، بإصبعك فحيثما أشرت إليه مال ، قال صلى الله عليه وسلم : " كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته ، أي سقطته ، حين يسجد تحت العرش " وروى البيهقي : أنه لما كان يوم السابع من ولادته ، صلى الله عليه وسلم ذبح له جده ، ودعا قريشاً فلما أكلوا قالوا : ما سميته ? قال : محمداً . قالوا : لم رغبت عن أسماء أهل بيته ? قال : أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض .
وعن محمد الباقر رضي الله عنه قال : أمرت آمنة في المنام ، وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه أحمد . قال صلى الله عليه وسلم : " من ولد له مولود فسماه محمداً حباً لي وتبركاً باسمي كان هو ومولده في الجنة " . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمداً فقد جهل . وذكر في " شرح ذات الشفاء " أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم سارت ثويبة مولاة أبي لهب فبشرته بولادة النبي المنتخب فأعتقها ، ومما لا يجوز القول به لمخالفته القرآن الكريم قول من قال إنه يخفف العذاب عن أبي لهب كل يوم اثنين أو ليلته وأما الرؤيا التي ذكرت عن العباس أنه رأى فيها أبا لهب بالمنام فسأله عن حاله فقال له يخفف عني العذاب كل ليلة اثنين وأمص من بين أصابعي ماء مثل هذا وأشار إلى نقرة إبهامه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة حين بشرتني بولادة محمد ابن أخي وبإرضاعها له فهذا لا يرد ما جاء في قوله تعالى عن الكفار في النار ( فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) سورة البقرة .
ولما ولد صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه آمنة سبعة أيام ، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب وقيل : أرضعته أمه سبعة أشهر وأرضعته ثلاث أبكار من سليم يسمين العواتك ، وضعت أثداءهن في فمه فدرت له قال صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن العواتك من سليم " قيل : العاتكة : الملطخة بالطيب أو الطاهرة ، ثم أرضعته أم فروة ، ثم أرضعته أم أيمن بركة مولاة أبيه ، ثم أرضعته خولة بنت المنذر ، ثم أرضعته حليمة السعدية ، وذكر في " الخصائص " لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت ، ولما بلغ من العمر صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه ، وفي تسعة أشهر تكلم بالكلام الفصيح ، وفي عشرة كان يرمي مع الصبيان ، وكانت أخته الشيماء ترقصه صلى الله عليه وسلم وتقول شعراً :
هذا أخي لم تـلـدهُ أمّـي ... وليسَ من نسلِ أبي وعمّي
فديتهُ من مخولِ مـعـمِّ
والشيماء أخته من الرضاع ، وهي بنت حليمة السعدية سبيت يوم هوازن ، فقالت لمن سباها : أنا أخت صاحبكم ، فحملوها إليه ، فقالت : يا رسول الله أنا أختك ، قال : وما علامة ذلك ? قالت : عضة منك في ظهري . فعرفها ، فقام صلى الله عليه وسلم وبسط رداءه وأجلسها عليه ، ودمعت لها عيناه وإلى هذا أشار صاحب الهمزية ، بقوله شعراً :
أتى السبيُّ فيه أختُ رضاعِ ... وضعَ الكفرُ قدرها والسّباءُ
بسط المصطفى له من رداءٍ ... أي فضلٍ حواهُ ذاكَ الرداءُ
فحباها بّراً توهّمت الـنّـاسُ ... به، إنّما النـسـاءُ هـداءُ
وتوفيت آمنة أمه صلى الله عليه وسلم وعمره أربع أو ست سنين ، وقيل : سبع سنين وقيل : ثمان سنين ، وقيل : تسع سنين ، وقيل : اثنتي عشر سنة وشهراً وعشرة أيام ، والأول أرجح ثم الثاني .
وروى أبو نعيم عن أسماء بنت أبي رهم ، عن أمها قالت : شهدت آمنة في علتها ومحمد صلى الله عليه وسلم غلام يقع عند رأسها ، له خمس سنين ، فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم ثم قالت شعراً :
باركَ فيكَ الـلـه مـن غـلامٍ ... يا ابنَ الذي من حومةِ الحمامِ
نجا بعونِ الملكِ الـمـنـعـام ... فدى غداةَ القرعِ بالـسّـهـامِ
بمـائةٍ مـن إبـلٍ ســـوامٍ ... إن صحَّ ما أبصرتُ في المنامِ
فأنتَ مبـعـوثٌ إلـى الأنـامِ ... من عند ذي الجلالِ والإكرامِ
تبعثُ في الحلِّ وفي الـحـرامِ ... تبعثُ بالتخفـيف والإسـلامِ
دينُ أبـيكَ الـبـرِ إبـراهـام ... فالله أنهاكَ عـن الأصـنـامِ
أن لا تواليهـا مـع الأقـوامِ
ثم قالت : كل حي ميت ، وكل جديد بال ٍ. وأنا ميتة وذكري باق . وقد تركت خيراً ، وولدت طهراً . ثم ماتت فكنا نسمع نواح الجن عليها ، وكان موتها بالأبواء موضع قريب إلى المدينة ، وكان موتها وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم من المدينة من زيارة أخواله ، فمكث عندهم شهراً ، ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة ، فماتت ودفنت بالأبواء وقيل : بالحجون في شعب أبي ذر ، وفي " القاموس " دار رابعة بمكة مدفن آمنة ، وتوفيت آمنة ولها من العمر نحو عشرين سنة . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون ، وهو باك حزين مغتم ، فبكيت لبكائه ، ثم طفق يقول : " يا حمراء استمسكي فاستندت إلى جانب البعير ، فمكث عني طويلاً ثم عاد وهو فرح مبتسم ، فقلت له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باك حزين ثم عدت إلي وأنت فرح مبتسم فمم ذاك ? قال : " ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت فردها الله تعالى وفي " الأشباه والنظائر " لابن نجيم ، من مات على الكفر أبيح لعنه إلا والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لثبوت أن الله أحياهما له حتى آمنا به . كذا في " مناقب الكردري " وما أحسن ما قاله الشيخ شمس الدين ، محمد بن ناصر الدين الدمشقي شعراً :
حبُّ النّبيّ مـزيدُ فـضـلٍ ... على فضلٍ وكان به رؤوفا
فأحـيا أمّـهُ وكـذا أبــاهُ ... لإيمانٍ به فضلاً مسـيّفـا
فسلّم فالـقـديمُ بـذا قـديرٌ ... وإن كانَ الحديثُ به ضعيفا
وعلى كل حال ، فالحذر الحذر بذكرهما بما فيه نقص فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات " ولا ريب أن أذاه كفر يقتل فاعله إن لم يتب منه خصوصاً وهما ناجيان من التعذيب في الدار الآخرة لأنهما من أهل الفطرة ، وقد دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة لقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) وذكر في " شرح الجوهرة " : قال الجلال السيوطي في " مسالك الحنفاء في والدي المصطفى " : نقلت من مجموع بخط الشيخ كمال الدين والد شيخنا تقي الدين ما نصه : سئل القاضي أبو بكر بن العربي عن : من قال : إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار ? فأجاب : بأنه ملعون ، لأن الله تعالى قال : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) قال : ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه أنه في النار . ولما توفيت آمنة قدمت أم أيمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى عند عبد المطلب بعد خمسة أيام فضمه إليه ، ورق عليه رقة لم يرقها على أحد من ولده فكان إذا أتى بطعام أجلسه إلى جنبه وربما أقعده على فخذه وكان يقول : إن لابني هذا شأناً ، ولما صار له صلى الله عليه وسلم من العمر سبع سنين أصابه رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن عنه ، فأخذه عبد المطلب وسار إلى عكاظ ، وكان دير قريب منها وفيه راهب يحسن معالجة الرمد ، فدنا منه عبد المطلب ، وكان الدير مغلقاً فنادى الراهب فلم يجبه ، فتزلزل الدير فخاف الراهب سقوطه فخرج مبادراً ، فقال : يا عبد المطلب ، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج لخر عليّ ديري ، فارجع به واحفظه ، ثم عالجه وعاد به عبد المطلب إلى مكة ومات عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين وشهرين ، وعاش عبد المطلب خمساً وتسعين سنة ، وقيل : مائة وأربعين . وذكر الدمياطي : أنه اثنتان وثمانون سنة ، وعن أم أيمن : أنه كان صلى الله عليه وسلم يبكي خلف سرير عبد المطلب ، وهو ابن ثمان سنين ودفن بالحجون عند قصي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يبعث جدي عبد المطلب في زي الملوك " ولما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب واسمه عبد مناف فكفله ، وقيل : الزبير رضي الله عنه وقيل : كفلاه معاً ، ومات الزبير ولرسول الله من العمر أربع عشرة سنة ، وقيل : نيف وعشرون سنة ، ومات أبو طالب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل : بسنة وعمره سبع وثمانون سنة ، وكان مصدقاً بنبوته صلى الله عليه وسلم ومصدقاً بالوحدانية ، وإنما منعته الأنفة والحمية الجاهلية . ومن شفقته على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فقده يومين فشق عليه ذلك ، وظن أنهم اغتالوه ، فالتمسه فلم يجده ، فدعا أهله وأقاربه ، وأعطى كل واحد سكيناً وقال لهم : ليجلس كل واحد منكم إلى جنب رجل من قريش ، وأنا أصعد هذا الجبل أدور على محمد فإن وجدته فلا يحدث أحد منكم شيئاً ، وإن نعيته لكم فليضرب كل منكم من بجانبه ، ونثيرها حرباً ، ثم صعد فوجده فقال : يا ابن أخي ظننت أنك قتلت وكدت أفتك في قومك ، فأعلمني إذا خرجت إلى أي مكان تريد ، فقال له : يا عم ألا أريك معجزة، فإني أحب أن يسعدك الله مما بعثت به? ثم دعا صلى الله عليه وسلم شجرة هناك فجاءت إليه، فقال: يا عم خذ من غصونها، ثم قال لها: عودي، فعادت، فقال: يا ابن أخي لهذا يقول لك قومك إنك ساحر . ثم أخذ بيده ، وأقبل به ينادي إلى نادي قريش ، فظنوا أنه يريد أن يسلمهم إياه . ثم قال لهم : قد كنت أراكم قتلتموه ، ورب هذا البيت لئن كنتم فعلتم لقتل كل واحد من هؤلاء جليسه ، أخرجوا شفاركم فأخرجوها ، فلما رأت قريش ذلك يئسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شعر أبيات أبي طالب فيه قوله :
ألا بلّغنا عنّي على ذاتِ بـينـنـا ... لوياً وخصّا ، من لؤيٍّ بني كعبِ
بأنّا وجدنا في الكتابِ مـحـمّـداً ... نبيّاً كموسى خطَّ في أوّلِ الكتبِ
ولكن أبا طالب خشي أن يعير بإسلامه ، ولعل تلك المواقف تنفعه ، والصحيح أنه مات كافراً ، وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم سينفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم فيوضع في نار قليلة ، ثم بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام توفيت خديجة ، رضي الله عنها ، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وظهر الضعف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ، فنالت منهم الكفار ما لم تكن قبل ذلك تصل إليه ، قال علي رضي الله عنه : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت قريش تتجاذبه وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً قال : فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه فصار يضرب هذا ويدفع هذا ، ويقول : أتقتلون رجلاً يقول ربي الله ? ولما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون : لقد انتصف القوم منا . رواه ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضاً : لما أسلم عمر نزل جبرائيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر رضي الله عنه ، وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب . وعن صهيب : لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقاً ، وقيل : لما أسلم عمر رضي الله عنه وثب عليه عتبة بن ربيعة فألقاه عمر رضي الله عنه على الأرض وبرك عليه ، وجعل يضربه وأدخل إصبعيه في عينيه ، فجعل عتبة يصيح ، وصار لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشراً سيفه ، وهي أطراف أضلاعه ، وما زال الإسلام يعلو وينمو ، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .
وذكر في " كشف الأسرار " قوله : لم رباه صلى الله عليه وسلم يتيماً ? قيل : لأن الأساس كل كبير صغير ، وعقبى كل حقير خطير ، وأيضاً لينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه إلى أوائل أمره ليعلم أن العزيز من أعزه الله تعالى وأن قوته ليست من الآباء والأمهات ، ولا من المال ، بل قوته من الله تعالى وأيضاً ليرحم الفقراء والأيتام ، ودل على ذلك قوله تعالى : ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ) وفي الكتب القديمة : إن من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم موت أبيه وهو حمل ، وموت أمه وكفالة جده وعمه ، وما أحسن قول الجمال بن نباتة شعراً :
ودعاهُ في الذّكرِ اليتيمِ وإنّما ... أسنى الجواهرَ ما يقالُ يتيمُ
وذكر في " المصابيح " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه " وذكر في " شرح ذات الشفاء " أن الشيعة تقول : اسم أبي طالب عمران ليكون قوله تعالى : ( وآل عمران ) أي فيه نزلت ، وعموا عن قوله تعالى : ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً ) قاتلهم الله أنى يؤفكون . فوا أسفاً عليه ، لم يكن فيه خصلة مذمومة غير الشرك فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ومن شعر أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم يخاطب النجاشي فيه :
تعلّم خيارَ الناسِ أن مـحـمّـداً ... نبيٌّ كموسى والمسيح ابن مريم
أتى بالهدى مثل الذي أتـيا بـهِ ... بصدقِ حديثٍ لا حديثَ المترجم
وإنّكم تلونه فـي كـتـابـكـم ... بصدقِ حديثٍ لا حديثَ المترجم
فلا تجعلوا الله ندّاً وأسـلـمـوا ... فإن طريقَ الحقِّ ليس بمظلـمِ
وهذا يدل على تصديقه بنبوته صلى الله عليه وسلم وإقراره بوحدانية الله تعالى .
المرجع
الروضة الفيحاء في أعلام النساء – ابن الخطيب العمري