الباب الحادي والعشرين : فتح مكة


كان سبب هذه الغزوة أو الفتح أن قريش خانوا ونقضوا بعض البنود في معاهدة الحديبية .. وهو أن قبيلة بني بكر أغاروا على قبيلة خزاعة التي كانت قد دخلت في عهد الرسول r .
وقد حاول أبو سفيان الخروج للمدينة لتجديد الصلح .. وعندما وصل إلى المدينة دخل بيت ابنته حبيبة .. أم المؤمنين فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله r طوته عنه .. وقالت : أنت رجل مشرك نجس .. فقال : لقد أصابك بعدي شر .. ثم خرج ليكلم الرسول r فلم يرد عليه فكلم أبا بكر وعمر فلم يكلماه .. وكذلك دخل على علي وفاطمة – فرفضا – وبدأ الاستعداد للغزو ودعا رسول الله r .. وقال : " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش متى نبغتها في بلادها " وزيادةً في الإخفاء هبت سرية إلى أضم بطريق الساحل وعندما كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم عن رسول الله r وأعطاه امرأة فجعلته في قرون رأسها ثم خرجت وأتى الرسول r الخبر علم بما صنع حاطب فبعث علياً والمقداد والزبير وأبا مرثد فقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتابٌ إلى قريش " ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة وطلبوا منها الكتاب فأنكرت فهددها بخلع ملابسها فأخرجته .. فبعث الرسول r وقال : " ماهذا يا حاطب " فقال : يا رسول الله لا تعجل علي .. إني لمؤمن وما بدلت ولكن لي عشيرة أو قريبات يحمونني فأحببت أن يكون لي يد .. فاستأذن عمر بن الخطاب في ضرب عنقه فقال : " إنه قد شهد بدراً ، وما يدريكم لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فذرقت عينا عمر .. وقال الله ورسوله أعلم .. وهكذا أخذ الله عيون قريش .

بداية تحرك الجيش الإسلامي

تحرك الجيش الإسلامي في 10 رمضان في السنة 8 هـ نحو مكة المكرمة في عشرة آلاف مقاتل .. وقابله في الطريق أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أمية وعمه العباس فأسلموا ..
وقد واصل الرسول r سيره وهو صائم والناس صيام حتى بلغ الكدية .. وهو ماء بين عسفان وقديد فأفطر رسول الله r وأفطر الناس ... كما أسلم أبو سفيان بن حرب بعد أن ذهب يستكشف الجيش وأجاره العباس عم رسول الله r وواصل المسلمون التوجه نحو مكة المكرمة ودخل أبو سفيان وهو يصيح ويردد قول الرسول r : " من دخل دار أبو سفيان فهو آمن .. " فتفرق الناس إلى المساجد وإلى دورهم وقدموا الأوباش والعبيد .. فتجمع سفهاء قريش مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمر بالخندمة ليقاتلوا المسلمين .. أما رسول الله r فقد مضى حتى وصل ذي طوى وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح .. حتى شعر أن لحيته تمس الراحلة .. ودخل خالد بن الوليد من أسفل مكة ودخل الزبير بن العوام من أعلى مكة وأبو عبيدة من بطن الوادي .. وقد قُتل من المشركين اثنا عشر رجلاً .

الرسول r يدخل الحرم

دخل رسول الله r الحرم فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت .. وفي يده قوس وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بالقوس ويقول : ]‏وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[( الإسراء : 18 ) .
والأصنام تتساقط على وجهها .. وكان على راحلته ولم يكن محرماً .. ولما أكلمه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة المشرفة فأمر بها ففتحت فدخلها فرأى فيها الصور ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام فقال : " قاتلكم الله والله ما استقسما بها قط " وأمر بالصور فمحيت .. ثم أغلق الباب ومعه بلال وعلي وأسامة .. ثم صلى هناك ثم دار حول البيت وكبر في نواحيه .. ووحد الله ثم فتح الباب وقريش قد ملأت الحرم .. ثم أخذ بعضادي الباب فقال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرَة أو مال أو دم تحت قدمي هاتين ، إلا سِدَانة البيت وسِقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد – السوط والعمد – ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولاد .
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ثم تلا هذ الآية : ]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير[ ( الحجرات : 13 ) .
ثم قال : " يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم " ، قالوا : خير أخ كريم وابن أخ كريم . قال : " فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء " ثم جلس رسول الله r في المسجد فقام علي وطلب جمع السقاية والحجابة فقال رسول الله : " أين عثمان بن طلحة ؟ " فدُعي له فقال : " هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء " وفي رواية أنه قال : " خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف " وهنا حانت الصلاة فأمر الرسول r بلالاً أن يصعد الكعبة فيؤذن .. وهنا أسلم الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد وبعد الفتح دخل النبي r بيت أم هاني بنت أبي طالب فاغتسل وصلى ثماني ركعات وكان ضحى فظنها من ظنها – صلاة الضحى – وإنما هي صلاة الفتح وأجارت أم هانئ حموين لها فقال r : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " وأهدر الرسول r دماء تسعة من أكابر المجرمين وأسلم بعضهم وتم قتل بعضهم .

خطبة الرسول r

قام ثاني يوم الفتح خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال : " أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لإمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر .. أن يسفك بها دماً ، أو يعضد بها شجراً ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله r فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب " .
وهنا تخوفت الأنصار من أن يبقى رسول الله r في مكة بعد الفتح فقال : " معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم " ، وبعد ذلك جلس رسول الله r يبايع الناس على الصفا .. ثم بايع النساء وأقام بمكة تسعة عشر يوماً يحدد معالم الإسلام ويرشد الناس للهدى . وفي هذه الأثناء جدد أبو سيد الخزاعي أنصاب وأعلام الحرم .. كما بعث فتح مكة رسول الله r سرايا للدعوة إلى الإسلام وكسر الأصنام .

المرجع
السيرة النبوية الشريفة مختصر لكتاب : " الرحيق المختوم " لمؤلفه الشيخ / صفي الرحمن المباركفوري
إعداد : عبد الله بن سعيد الزهراني ، الطبعة الأولى ، 1427 هـ – 2006 م