شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : النشاط التجاري بين الجزيرة العربية ومصر قبل الإسلام


ثروت كتبي
09-03-2011, 09:37 PM
النَّشَاطُ التُجاريُّ بَيْن الجزيرةِ العَربيَّة ومِصْر قَبْل الإسلام




احتلت الجزيرة العربية مكانة متميزة في إنتاج المواد العطرية خلال العصرين اليوناني والروماني سواء ما كان ينتج بها محلياً أو ما كان يرد إليها من إنتاج غيرها وخاصة بلاد الهند. وقد ورد ذكر الجزيرة العربية كبلاد تفوح بالعطر والطيب في تاريخ هيرودوت (485-425ق.م) وكتابات بلينيوس (23-72م) واسترابون[1]. وتُعد كتابات هيرودوت أول المؤرخين اليونان هي أول ذكر مفصل ومطول عن العرب والجزيرة العربية، ففي سياق حديثه عن الجزيرة العربية أفاض في ذكر منتجاتها من اللبان والمُر والقصيعة والقرفة واللادن أو المستكة وذكر بشكل عام أن العرب كانوا يتاجرون في هذه المواد مع البلاد الأخرى وأن الفينيقيين في هذه الفترة كانوا يقومون بدور الوسطاء في تجارة الطيب والتوابل بين الجزيرة العربية والعالم اليوناني[2].
ويذكر بلينيوس أن بعض أنواع الطيوب والتوابل كانت تنتج في الجزيرة العربية دون غيرها من البلاد الأخرى، فلا ينتج اللبان مثلاً إلا في حضرموت، ويشارك الجزيرة العربية عدد من البلاد الأخرى في إنتاج المُر والمستكة وصمغ اللادن وعدد آخر من المواد العطرية، أما القرفة والقصيعة فهي لا تنتج في الجزيرة ولكن يحصل عليها التجار العرب من بلاد أخرى ثم يعيدون تصديرها، وقد أورد هذا المؤرخ أيضاً أن تجارة هذه المواد لم تعاني أي بوار في تسويقها بسبب الإقبال الشديد عليها سواء في مصر أو روما حيث كانت هذه البلاد تستوعب أية كميات تصلها من الجزيرة العربية، فيذكر مثلاً أن محصول اللبان بعد أن كان يُجمع مرة واحدة كل عام أصبح يُجمع مرتين بسبب رواج تجارته[3].
مرت الجزيرة العربية بتحول تاريخي جديد منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد حينما انتهى الرومان من إخضاع مناطق شرق البحر المتوسط وما صاحب ذلك من رخاء كبير كان أحد مظاهره استهلاك غير عادي من جانب المجتمع الروماني للطيوب والتوابل التي كان يأتي معظمها من الجزيرة العربية، كما صاحب ذلك ازدهار طبقة أصحاب رؤوس الأموال والتي عُرفت بطبقة الفرسان والتي كانت تسيطر على الاقتصاد الروماني المتمثل في تجارة أغلى السلع وهي المواد العطرية والتوابل[4].
وقد اهتم سترابون بالحديث عن تغيير مسار الطرق التجارية في عصره فيذكر أن تجارة المواد العطرية التي كانت تصل إلى البتراء الفينيقية الملاصقة لمصر ومنها إلى بقية الشعوب، أصبحت تصل مباشرة عن طريق البحر الأحمر إلى ميناء ميوس هرموس على الساحل المصري للبحر الأحمر ومنها بالجمال إلى مدينة قَفْط التي تقع على قناة تصب في النيل ثم بعد ذلك إلى الإسكندرية[5]. واشتهر العرب في تلك الفترة بين الأمم الأخرى بأنهم قوم تجارة وأن التجارة صاحبتهم في عصورهم المختلفة، حتى ذكر سترابون عن العرب "أنهم تجار وسماسرة وقوم تجارة وبيع وشراء"[6]، وكان للممالك العربية مثل تدمر وسبأ ومعين معرفة ودراية كبيرة بالتجارة ومكانة مرموقة في تجارة الشرق بصفة خاصة، فقد حمل أهل تدمر في القديم إلى مصر صادرات بلاد العرب والهند، وكانت روما التي خضعت لها معظم بلاد العالم تهاب تدمر وتتودد إليها[7]، ولم يكن المعينيون أقل حظاً في التجارة من التدمريين فقد ازدهرت تجارتهم بشكل كبير حيث امتد نفوذهم حتى سواحل البحر المتوسط إلى جانب خليج العجم[8]، وكان لمملكة سبأ أيضاً نشاط تجاري واسع ومرموق مع مصر في تجارة الطيوب والتوابل وظل هذا النشاط قائماً حتى أخذت التجارة الهندية في السيطرة على التجارة البحرية خلال القرن الأول الميلادي ومن هنا بدأ نجم السبئيون في الأفول[9].
وقد كان الخليج العربي شرياناً هاماً للملاحة بين جنوب غرب آسيا والشرق الأقصى خاصة أنه كان مدرسة قديمة للملاحة حيث اشتغل أهله بتجارة البخور والتوابل واللؤلؤ منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، بالإضافة إلى ما تدلنا عليه بعض الآثار المصرية التي ترجع إلى عصر ما قبل الأسرات من وجود اتصال تجاري بحري بين الخليج العربي والبحر الأحمر منذ أكثر من سبعة آلاف عام[10]، وكان البحر الأحمر هو الآخر من أهم طرق التجارة وأقدمها بين مصر وبلاد اليمن والجزيرة العربية في العصر البطلمي وما بعده، وقد ظل اهتمام المصريين بالتجارة مع تلك البلاد عن طريق البحر الأحمر طوال التاريخ مما أدى إلى شق قناة بينه وبين النيل لتسهيل طريق التجارة. وكان هناك طريق تجاري بري آخر في جنوب مصر يصل ما بين قِنَا والبحر الأحمر نشأت من جرائه عدة مراكز تجارية جديدة على النيل مثل قَفْط والقُصَيْر وغيرها قامت بينها وبين موانئ عربية مقابلة لها مثل يَنْبُع وجِدَّة أنشطة تجارية كبيرة. أما طرق التجارة في شمال الجزيرة العربية فقد تأثرت بعدة عوامل كان من أهمها مناطق القوة السياسية، ومدى امتداد النشاط التجاري خلال العصر الإغريقي الروماني إلى جانب حالة الأمن في منطقة الهلال الخصيب[11].
وظلت التجارة تلعب دوراً رئيساً في حياة عرب الجزيرة في عصور ما قبل الإسلام فقد كانوا إما تجاراً أو وسطاء تجاريين أو ناقلين للتجارة أو حماة لطرق مسيرها، ومن ثم قامت عدة مراكز تجارية عربية في أماكن شتى من شبه الجزيرة العربية سواء في شمالها أو جنوبها أو حتى وسطها[12].
حرص الأنباط على السيطرة على التجارة العربية التي كانت ترد إلى عاصمتهم بحكم موقعهم حول خليج العقبة ولم يترددوا نتيجة لذلك في تحدي سفن البطالمة ومهاجمتها وكان على البطالمة أيضاً مواجهتهم حتى يوقفوا غاراتهم على تلك التجارة وسيطرتهم عليها ولذلك أعد الملك بطلميوس الثاني فيلادلفوس (285-246ق.م) أسطولاً حربياً لوقف هذه الغارات واهتم بإخضاع شرق الأردن لتأمين التجارة العربية التي كانت تمر بفيلادلفيا (عَمَّان) متجهة إلى ميناء بطلميوس (عكا) على ساحل فينيقيا، فضلاً عن إنشائه عدة موانئ على الساحل المصري للبحر الأحمر، وأوعز إلى إغريق مدينة ميلينوس الواقعة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى بتأسيس مستوطنة جديدة عُرفت باسم أمبيلوني على الساحل العربي لأرض لحيان إمعاناً في إحكام المواجهة مع الأنباط، واستدعى ذلك بطبيعة الحال إلى توثيق علاقاته مع اللحيانيين ثم المعينيين الذين كانت تنتهي عند مدينتهم دِدان طرق التجارة القادمة من جنوب الجزيرة العربية. ولما كانت تلك القوى العربية الكائنة في شمال الحجاز لا تسلم من منافسة الأنباط لها في هذه التجارة فقد تعاونت مع الملك البطلمي وربطت مدينتها دِدان بمستوطنة أمبيلوني وذلك لتنقل منها السلع العربية مباشرة إلى ميناء ميوس هرموس البطلمي دون المرور بأرض الأنباط وبذلك يتخلصوا من دفع الضرائب الباهظة التي كانت تُفرض عليهم من قِبَل الأنباط قبل خروجها من البتراء . وقد عُثر في الجيزة بمصر على نقش كتابي بالخط المعيني يؤكد أن البطالمة قد وطدوا علاقاتهم الاقتصادية مع دولة سبأ في جنوب الجزيرة العربية، يرجع هذا النص لعهد الملك بطلميوس الثاني وقد نقشه تاجر معيني كان كاهناً في أحد المعابد المصرية وقام باستيراد كميات من المُرِّ والبخور بسفينة خاصة كان يمتلكها[13].
ومن المؤكد أن سياسة الملك بطلميوس التجارية المدعمة بالقوة العسكرية أحياناً وبالجهود العلمية في مجال الكشف الجغرافي وإنشاء الموانئ قد حققت أهدافها الاقتصادية إلى حد بعيد، فورد في وصف احتفالات لهذا الملك : "... وكان بعض الغلمان ينثرون العطور على النظارة ... وجِمال حُمِّل بعضها ثلثمائة رطل من اللبان ومائة رطل من المُر ومائتي رطل من الزعفران والقاسيا والسوس والقرفة وكل أنواع التوابل
والأفاويه ..."[14]، وذكر ثيوقريطس في مدح الملك بطلميوس الثاني "... شيد المعابد وملأها بألوان من الطيب الزكي والبخور العطر ..."[15].
وعندما برز النشاط التجاري العربي في البحر الأحمر خلال عصر البطالمة وما تلاه أخذ التجار العرب يتوافدون على مصر وبدأ نوع من الاتصال المباشر من جانب سكان الجزيرة العربية واتضحت هذه الظاهرة بشكل جلي في كثرة النقوش العربية المحفورة على الحجر خاصة على جوانب الطرق القادمة من الموانئ الواقعة على حافة الصحراء حيث المداخل التي كان يفد عن طريقها هؤلاء التجار. ويعد النقش المدون بالكتابة العربية الجنوبية على تابوت التاجر المعيني (الكاهن) زيد بن أيل والذي يرجع إلى العصر البطلمي من أقدم النقوش العربية في مصر والتي توضح ظاهرة توافد التجار العرب إلى مصر واستقرارهم فيها ويُستدل من خلاله على مدى اندماج عرب الجزيرة في مصر واتباعهم العادات المصرية مما زاد من انصهار الحضارات مع بعضها بشكل كبير[16].



الهوامش
Diodorus Siculus, Bibliotheca Historica, II, p. 4, 25 . 1
2 لطفي عبد الوهاب يحيى، الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية، مقال بالكتاب الأول لمصادر تاريخ الجزيرة العربية، ج2، الرياض 1979،
ص55-56.
[3] لطفي عبد الوهاب يحيى، المرجع السابق، ص63 ؛ Plinius, Historia Naturalis, XIIm, p. 58-83
[4]Pritchard (J.B.), Ancient Near East. Supplementary Texts and Pictures Relating to the Old testament. Princeton, New Jersy, 1955, p. 123 ; Cary (M.), A History of Rome, 1951, p. 567 .
[5]لطفي عبد الوهاب يحيى، المرجع السابق، ص61 ؛ Strabo, Geographica, XVI, p. 4:24
[6]ناصر بن سعد الرشيد، تعامل العرب التجاري وكيفيته في العصر الجاهلي،مقال بالكتاب الأول لمصادر تاريخ الجزيرة العربية، ج2، الرياض 1979، ص216 ؛
مجلة المجمع العلمي العراقي، ج2، بغداد 1978،ص78 .
[7]سعيد الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، الطبعة الثانية، دمشق 1379هـ، ص17 .
[8]سعيد الأفغاني، المرجع نفسه، ص18 .
[9]سعيد الأفغاني، المرجع السابق، ص18، 19.
[10]محمد السيد غلاب، المرجع السابق ، ص196.
[11]محمد السيد غلاب، المرجع السابق، ص191: 194.
[12]Huzayyen, (S.A), Arabia and the Far East, Cairo 1942, p. 163 .
[13]مصطفى كمال عبد العليم، دور البحر الأحمر في تاريخ مصر في عصر البطالمة، القاهرة 1979، ص24.
[14]مصطفى كمال عبد العليم، المرجع نفسه، ص14، 15 .
[15]محمد صقر خفاجة، شعر الرعاة، القاهرة 1978، ص90 .
[16]عبد المنعم عبد الحليم سيد، الجزيرة العربية ومناطقها وسكانها في النقوش القديمة في مصر، مقال بالكتاب الأول لمصادر تاريخ الجزيرة العربية، ج2، الرياض 1979، ص46 ؛ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج2، بيروت 1968، ص34 .
المصدر
مجلة الآثار
الكاتب
الدكتور/ عادل محمد زيادة أخصائي الآثار الإسلامية بوز