م.أديب الحبشي
02-01-2011, 05:31 PM
الزوايا في جدة
أما بالنسبة للزوايا فكانت كثيرة العدد ولعل من أشهرها زاوية أبو سيفين بسوق الندى ومن أشهر أئمتها الشيخ / عبد العزيز نعمة الله ، يرحمه الله. . كذلك زاوية أبو عنبة بحارة الشام وعمرها أكثر من سبعة قرون ومن أئمتها الشيخ / محمد حسين مطر . الشيخ / محمود عطية يرحمهما الله وزاوية الإسنوي بحارة البحر وهى في الأصل زاوية النمر وكان إمامها مصري يدعى الإسنوى وعادة ما كانوا يسمون الزوايا بأسماء أئمتها وزاوية القنفدية بحارة البحر أيضاً وزاوية الفته بحارة اليمن ، ومن أئمتها الشيخ / محمد عطية ، يرحمه الله . وزاوية السليمانية بحارة اليمن ، وزاوية طبيلة بشارع الذهب حالياً . وزاوية لولوة بباب مكة وزاوية أبوسرير بسوق الندى وزاوية ريحان وزاوية الهنود بقصبة الهنود . وزاوية الحضارم بسوق الندى ( العلوا نية ).
وكذلك عرفت مدينة جدة قبل العهد السعودي بعض الزوايا لأصحاب الطرق مثل زاوية السادة الشاذلية بحارة اليمن ، وزاوية البدوي بحارة المظلوم قرب سوق الجامع وزاوية الجيلانية بحارة الشام . وزاوية أهل الطريقة القادرية.
هذا وقد كان للمريدين وأصحاب الطرق احتفالات خاصة تصدر عنها الكثير من التصرفات الدخيلة على الدين وقيمه الكريمة حتى أن بعض الأهالي كانوا يسفهون مواكبهم في أواخر العهد العثماني والعهد الهاشمي . . ولا شك أن شطراً من المجتمع كان تائهاً يتعبد بعض أفكار الجهل والشطط والغلو . وقد كان من فضل الله أن تم القضاء على تلك البدع المخالفة للكتاب والسنة وتنقية ما علق بالدين من شوائب على يد الملك عبد العزيز يرحمه الله . .
هذا وكان لخطباء المساجد والأئمة والمؤذنين شروط ومواصفات معينة يتضمنها نظام خاص ، وكان على المتقدمين لهذه الوظائف تأدية الامتحان أمام ( إدارة هيئة المراقبة على المدارس والمدرسين والكتب ) التي تمنحه شهادة بذلك .
ومما يجدر ذكره أن الكثير من الأهالي خاصة الموسرين منهم كانوا يوقفون الدور للصرف من ريعها على شئون المساجد . وهذا ما كان عليه بالنسبة للحرمين الشريفين الذين كانت لها بعض الأوقاف بجدة مثل أوقاف الأغوات التي كان يشرف عليها (عمر شامي) يرحمه الله ، وكانت كل فئة تخدم الحرمين الشريفين لها أوقافها كالمؤذنين والمزورين والزمازمة . . يعتبر صلاح الدين الأيوبي أول من أوقف على خدام الحرم النبوي الشريف . .
هذا و قد غصت مدينة جدة خلال الصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري بمئات المساجد الحديثة ، و قد أشارت إحصاءات وزارة الحج و الأوقاف عام 1400هـ أن بجدة (460) مسجداً . . غير أن هدا العدد قد زاد عن الضعف بما ينوف على ألف مسجد خلال الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري . .
كذلك كانت تنتشر في جدة الأربطة لإيواء من لا عائل لهم من العجزة والمسنين ومن أشهر تلك الأربطة : رباط الخنجي الكبير ورباط الخنجي الصغير ورباط باناجه ورباط النوري ورباط باعشن بحارة الشام ، ورباط المغربي بحارة الظلوم ، ورباط الساده لآل باديب جنوب مسجد الباشا بشارع الملك عبد العزيز ورباط الولاية أى الحريم - وغيرها.
كما كان بعض المحسنين من أبناء العالم الإسلامي يوقفون بعض الأربطة لأبناء جلدتهم مثل . رباط الهنود ورباط الميمن ورباط البخارية ورباط الصومالية . . كما تفرد السلطان ( على دينار ) سلطان دارفور قبل ضمها إلى السودان عام 1922م بإعمال الأوقاف في الحجاز خدمة للحجيج من أبناء دارفور ومن الشواهد أوقافه في آبار على بالمدينة النورة وفي منطقة باب شريف بجدة و مقر القنصلية السودانية بجدة . . كما يذكر له إرساله الجنود لحماية الحجاج في مكة المكرمة مطلع القرن العشرين الميلادي.
والمعروف أن الرباط نظام اجتماعي تكافلي ابتكره المسلمون لتوفير السكن الكريم للمعوزين وكان ساكنيه كثيراً ما يقضون أوقات فراغهم في بعض الأعمال النافعة مثل الخياطة والتطريز وكي الملابس لبعض الأسر ومن بينهم بعض القابلات . . وكانت المكواه ثقيلة الوزن كبيرة الحجم مقارنة بالكهربائية حيث كانت تملأ بالفحم الموقد وهي عملية مرهقة وتؤثر على الصدر . . في حين أن غسيل الملابس كان يتم يدويا بقوالب الصابون في "الطشت أو الوعاء" وكان يتم نقع الملابس في ( الرماد ) قبل غسلها لإزالة الأوساخ منها .
وللحقيقة والتاريخ فإن جدة لم تكن قط مجرد ميناء بحري هام ، أو مجرد مدينة تتسم بالنشاط التجاري فحسب ، بل عرفت بشخصيتها العلمية وحياتها التعليمية.
فمنذ القرون الإسلامية الأولى برز في جدة العديد من العلماء الأفذاذ لعل في طليعتهم الشيخ / عبد الملك بن إبراهيم الجدي المكي أبو عبد الله أحد رواة الحديث الذين أخرج لهم أصحاب الكتب الشهيرة أمثال الإمام البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي . كما روى عنه سفيان الثوري وشعبة.
ويجدر التنويه إلى بعض أولئك العلماء الأكابر أمثال الشيخ / أحمد بن سعيد بن فرقد الجدي ، من شيوخ الطبراني . وكذا الشيخ / الحسين بن حميد النجيرمي الجدي وغيرهما. .
هذا وكان "الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي" قد ألف كتابا أسماه "البلدانيات" وهى البلدان التي رحل إليها من أجل سماع الحديث عن المشايخ . .
ومع أن الكتاب قد رتب على أساس الحروف الهجائية إلا أنه جعل فاتحة الكتاب " مدينة جدة".
وقال " قامت للضرورة" وأضاف : وهى من البلدان التي سمع بها الطبراني على بعض شيوخه ، وأبو حيان على أحمد بن محمد بن الحسن الحراز الزبيدي .وكذا شيخنا. ويعنى الحافظ العسقلاني صاحب كتاب "فتح الباري" وعلى مر القرون حفلت جدة بعلماء أفاضل اشتهرت حلقاتهم الدراسية بالمساجد والمجالس ومن أشهرهم الشيخ / برهان الدين إبراهيم اللقاني . المفتى المحدث المتوفي سنة 1401هـ. .
وذكرت العديد من المراجع أن من بين العلماء المعدودين في عصره بجدة الشيخ / عبد القادر بن مصطفي التلمسانى الطرابلسى الذي تحول من مذهب "الأشاعرة" إلى مذهب أهل السنه . . وقيل أنه كان له تأثيره البالغ على الشيخ / محمد حسين نصيف ، كما تذكر له طباعته لكثير من كتب السلف على نفقت وتوزيعها حيث كان شخصاً ميسوراً وتاجراً ثرياً امتدت تجارته من الحجاز إلى مصر . ورويت عنه الكثير من الفضائل وفعل الخير وجبر عثرات الناس دون الكشف عن نفسه لمن يحسن لإليه وقد توفي عام 1332هـ. والشيخ / عبدا قادر، هو جد الشيخ / عمر التلمسانى المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر . . وهو ابن عمتي شقيقة والدي التي رحلت إلى مصر بعد زواجها منذ قرن من الزمان ولا زالت أسرتينا بجدة ومصر على اتصال لم ينقطع ومصاهره متبادلة ومتجدده حتى اليوم . .
ومن علماء جدة في منتصف القرن الماضي (14هـ) الشيخ / محمد بن حسين بن إبراهيم المشهور بـ (الفقيه) الذي تعلم القراءات على يد الشيخ / احمد الزهرة . . وقد كان يدرس التفسير والحديث وتعلم على يديه الكثير من طلبة العلم بجدة ، وكان إماماً وخطيباً في مسجد عكاش ، وله العديد من الكتب القيمة . وقد توفي عام 1354هـ . .
وفي النصف الأخير أيضاً من القرن الماضي (14هـ) اشتهر بجدة الشيخ / حسن حسنين أبو الحمايل ، إمام وخطيب المسجد الشافعي الذي تضلع في علوم الفقه . وكان مديراً للمدرسة المنصورية . .
كذلك الشيخ / محمد أحمد باشميل ، الذي تولى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بجدة وكانت له مشاركات وأحاديث دينية مع بدايات إنشاء الإذاعة السعودية بجدة ولسنوات طوال . . ومن أشهر مؤلفاته ( لا . يا فتاة الحجاز) .
أيضاً من علماء جدة الأجلاء الشيخ / بكر ادريس - وهو برقاوي الأصل - درس العلوم الدينية في العديد من مدارس جدة . وكنا قد درسنا على يديه بمدرسة الفلاح ، كما درس في السبع قصور بالإضافة إلى الدروس والمواعظ التي كان يلقيها في المساجد ، وكان إماماً وخطيباً في مسجد عكاش.
ولعل جيلنا وهو جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري كان أكثر حظاً واستمتاعاً بتلك الروابط الروحانية والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع . . ودعني أسجل تلك اللوحة التي عايشناها .
كانت العوائل تنام على أسطح منازلها ، ولكل منا فراشه الخاص الذي يفرشه مبكرا لعل تساقط قطرات الندى عليه يكسبه بعض البرودة ، والجميع ينام بعد صلاة العشاء بعد الاستمتاع بحكاية من الحكايات المشوقة من كبار السن الذين لا يخلو أي بيت منهم . . ثم يطفئ الفانوس أو الاتريك . . وعلى ضوء القمر يستغرق الجميع في النوم. .وكان في كل حارة بعض المحتسبين المتطوعين الذين يمرون في الأزقة بعد أذان الفجر الأول فيوقظون أصحابها لأداء الصلاة .
وكان في حارة اليمن العم محمد عثمان خميس ، يرحمه الله الذي كان يتمتع بصوت شجي يشق صمت الحارة وظلمة الليل . وأذكر أنه كان يمر بجوار بيتنا يومياً لإيقاظ الوالد يرحمه الله والجيران وينادي بالاسم على من يوصيه بذلك فيجيبه المنادي عليه بالشهادة . وكنا نستيقظ في نشوة وانشراح للخروج مع الوالد للصلاة . . وأذكر بعض ما كان يردده العم محمد عثمان خميس أثناء جولته فيقول
" لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير"
ثم يردد:
أصح يا نايم = وحد الدايم
يا عباد الله = وحدوا الله
أفلح من قال = لا إله إلا الله
ومن يوصيه بالاسم يردد اسمه مرتين : يا محمد الصلاة أو يا صالح الصلاة . . وهكذا . المهم أننا نتوضأ وننزل إلى الزاوية المجاورة مع الوالد فنجد أن كل الآباء من الجيران يصطحبون معهم أبنائهم . فنلتقي بأقراننا في بيت من بيوت الله وتتوطد العلاقات بين الجميع . .
ولما كانت غالبية بيوت جدة تقيم صنادق خشبية "حظائر" ملاصقة لجدار البيت بغرض تربية الأغنام والدجاج . فقد كنا شأن غالبية الجيران يتجه بعد صلاة الصبح إلى الحظيرة حاملين المواعين ( حله أو قدر) حيث يقوم الوالد بحلب الأغنام ومن ثم تكييسها وإطلاق سراحها في الأزقة مع شراء الفول بقرشين وتتجمع كل العائلة للإفطار . وبعده نقرأ القرآن حتى يحين موعد توجهنا إلى المدرسة بانشراح وإقبال.
أما من لا يقتني الأغنام فكان يشتري اللبن والحليب من اللبانة الذين كانوا يبيعون اللبن في زبادي صغيرة ترص على لوح خشبي يغطى بالشاش في الأسواق ، أما في الدكاكين فترص في نملية من الخشب واجهتها من السلك الدقيق . . وكانت القشدة أغلا ثمناً وذات لون مائل للصفرة لغناها بالدسم . .
هذا وكان الحليب عند البائع يوضع في وعاء مخصوص يسمى السطل ويشترى عادة في بكرج وبشكل عام فإن رائحته ونكهته مشهية مما يدل على أن البضاعة طازجة . .
هذا وقد كان بعض اللبانة في مرحلة مبكرة يحملون طبلية اللبن على رؤسهم وعليها الزبادي في حين يمسك بعضهم بيده بسطل مملوء من الحليب الطازج ومعه مغراف صغير ويتجول في الحواري والأزقة لبيع بضاعته .
ومن أشهر اللبانة في القرن الرابع عشر الهجري كل من أحمد شعيب ، وعباس دبوس والبرمبالى ، وعبد الله وعمر عبد الدائم ومحمد خميس وصادق وصدقة باجوه ومحمد أفندي وعثمان زمريق وعبود باشوية ومحمد غراب وإبراهيم عبد الهادي صعيدي وأحمد شلبي ، وسالم وعمر عماري ومعاذ أبو الجدايل وغيرهم . .
هذا و يعتبر الشيخ / أحمد شعيب أكبر اللبانة ، وكان مسئولاً عن تأمين الحليب و مشتقاته إلى القصر في عهد الملك عبد العزيز يرحمه الله . .
ونتيجة لإنشاء مصانع الألبان الحديثة تقلصت صناعة الألبان التقليدية وأصبحت في حدود ضيقة جداً .
المهم أن تلك البساطة كانت سمة متأصلة بين الناس . لذا تجدهم داثماً مشرقي الطلعة يغمرهم البشر . بعكس محاولات صناعة الفرح في هذه الأيام التي طفت عليها تعقيدات الحياة ومادياتها فتأتي فيها الفرحة باهته نتكلفة.
وقد عرفت جدة الكثير من النساء العصاميات أيضاً من خارج الأربطة ولهن كفاح مشهود في الكسب الشريف لتربية أيتامهن وإعالة أنفسهن.ومن هؤلاء سيدة تسمى ( خديجة مقلية ) وكانت تبسط كل يوم بعد المغرب في سوق الجامع أمام المسجد الشافعي لصنع وبيع المقلية والصالونه ( السلطة ) المخصصة لها . وكذلك كانت سيدة أخرى تدعي ( زردخ ) لها بسطة أمام مقلي يعقوب بحارة المظلوم تبيع فيها ( المقلية ) .
المرجع
( كتاب جدة .. حكاية مدينة– لمحمد يوسف محمد حسن طرابلسي–الطبعة الأولى 1427هـ ، 2006م)
أما بالنسبة للزوايا فكانت كثيرة العدد ولعل من أشهرها زاوية أبو سيفين بسوق الندى ومن أشهر أئمتها الشيخ / عبد العزيز نعمة الله ، يرحمه الله. . كذلك زاوية أبو عنبة بحارة الشام وعمرها أكثر من سبعة قرون ومن أئمتها الشيخ / محمد حسين مطر . الشيخ / محمود عطية يرحمهما الله وزاوية الإسنوي بحارة البحر وهى في الأصل زاوية النمر وكان إمامها مصري يدعى الإسنوى وعادة ما كانوا يسمون الزوايا بأسماء أئمتها وزاوية القنفدية بحارة البحر أيضاً وزاوية الفته بحارة اليمن ، ومن أئمتها الشيخ / محمد عطية ، يرحمه الله . وزاوية السليمانية بحارة اليمن ، وزاوية طبيلة بشارع الذهب حالياً . وزاوية لولوة بباب مكة وزاوية أبوسرير بسوق الندى وزاوية ريحان وزاوية الهنود بقصبة الهنود . وزاوية الحضارم بسوق الندى ( العلوا نية ).
وكذلك عرفت مدينة جدة قبل العهد السعودي بعض الزوايا لأصحاب الطرق مثل زاوية السادة الشاذلية بحارة اليمن ، وزاوية البدوي بحارة المظلوم قرب سوق الجامع وزاوية الجيلانية بحارة الشام . وزاوية أهل الطريقة القادرية.
هذا وقد كان للمريدين وأصحاب الطرق احتفالات خاصة تصدر عنها الكثير من التصرفات الدخيلة على الدين وقيمه الكريمة حتى أن بعض الأهالي كانوا يسفهون مواكبهم في أواخر العهد العثماني والعهد الهاشمي . . ولا شك أن شطراً من المجتمع كان تائهاً يتعبد بعض أفكار الجهل والشطط والغلو . وقد كان من فضل الله أن تم القضاء على تلك البدع المخالفة للكتاب والسنة وتنقية ما علق بالدين من شوائب على يد الملك عبد العزيز يرحمه الله . .
هذا وكان لخطباء المساجد والأئمة والمؤذنين شروط ومواصفات معينة يتضمنها نظام خاص ، وكان على المتقدمين لهذه الوظائف تأدية الامتحان أمام ( إدارة هيئة المراقبة على المدارس والمدرسين والكتب ) التي تمنحه شهادة بذلك .
ومما يجدر ذكره أن الكثير من الأهالي خاصة الموسرين منهم كانوا يوقفون الدور للصرف من ريعها على شئون المساجد . وهذا ما كان عليه بالنسبة للحرمين الشريفين الذين كانت لها بعض الأوقاف بجدة مثل أوقاف الأغوات التي كان يشرف عليها (عمر شامي) يرحمه الله ، وكانت كل فئة تخدم الحرمين الشريفين لها أوقافها كالمؤذنين والمزورين والزمازمة . . يعتبر صلاح الدين الأيوبي أول من أوقف على خدام الحرم النبوي الشريف . .
هذا و قد غصت مدينة جدة خلال الصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري بمئات المساجد الحديثة ، و قد أشارت إحصاءات وزارة الحج و الأوقاف عام 1400هـ أن بجدة (460) مسجداً . . غير أن هدا العدد قد زاد عن الضعف بما ينوف على ألف مسجد خلال الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري . .
كذلك كانت تنتشر في جدة الأربطة لإيواء من لا عائل لهم من العجزة والمسنين ومن أشهر تلك الأربطة : رباط الخنجي الكبير ورباط الخنجي الصغير ورباط باناجه ورباط النوري ورباط باعشن بحارة الشام ، ورباط المغربي بحارة الظلوم ، ورباط الساده لآل باديب جنوب مسجد الباشا بشارع الملك عبد العزيز ورباط الولاية أى الحريم - وغيرها.
كما كان بعض المحسنين من أبناء العالم الإسلامي يوقفون بعض الأربطة لأبناء جلدتهم مثل . رباط الهنود ورباط الميمن ورباط البخارية ورباط الصومالية . . كما تفرد السلطان ( على دينار ) سلطان دارفور قبل ضمها إلى السودان عام 1922م بإعمال الأوقاف في الحجاز خدمة للحجيج من أبناء دارفور ومن الشواهد أوقافه في آبار على بالمدينة النورة وفي منطقة باب شريف بجدة و مقر القنصلية السودانية بجدة . . كما يذكر له إرساله الجنود لحماية الحجاج في مكة المكرمة مطلع القرن العشرين الميلادي.
والمعروف أن الرباط نظام اجتماعي تكافلي ابتكره المسلمون لتوفير السكن الكريم للمعوزين وكان ساكنيه كثيراً ما يقضون أوقات فراغهم في بعض الأعمال النافعة مثل الخياطة والتطريز وكي الملابس لبعض الأسر ومن بينهم بعض القابلات . . وكانت المكواه ثقيلة الوزن كبيرة الحجم مقارنة بالكهربائية حيث كانت تملأ بالفحم الموقد وهي عملية مرهقة وتؤثر على الصدر . . في حين أن غسيل الملابس كان يتم يدويا بقوالب الصابون في "الطشت أو الوعاء" وكان يتم نقع الملابس في ( الرماد ) قبل غسلها لإزالة الأوساخ منها .
وللحقيقة والتاريخ فإن جدة لم تكن قط مجرد ميناء بحري هام ، أو مجرد مدينة تتسم بالنشاط التجاري فحسب ، بل عرفت بشخصيتها العلمية وحياتها التعليمية.
فمنذ القرون الإسلامية الأولى برز في جدة العديد من العلماء الأفذاذ لعل في طليعتهم الشيخ / عبد الملك بن إبراهيم الجدي المكي أبو عبد الله أحد رواة الحديث الذين أخرج لهم أصحاب الكتب الشهيرة أمثال الإمام البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي . كما روى عنه سفيان الثوري وشعبة.
ويجدر التنويه إلى بعض أولئك العلماء الأكابر أمثال الشيخ / أحمد بن سعيد بن فرقد الجدي ، من شيوخ الطبراني . وكذا الشيخ / الحسين بن حميد النجيرمي الجدي وغيرهما. .
هذا وكان "الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي" قد ألف كتابا أسماه "البلدانيات" وهى البلدان التي رحل إليها من أجل سماع الحديث عن المشايخ . .
ومع أن الكتاب قد رتب على أساس الحروف الهجائية إلا أنه جعل فاتحة الكتاب " مدينة جدة".
وقال " قامت للضرورة" وأضاف : وهى من البلدان التي سمع بها الطبراني على بعض شيوخه ، وأبو حيان على أحمد بن محمد بن الحسن الحراز الزبيدي .وكذا شيخنا. ويعنى الحافظ العسقلاني صاحب كتاب "فتح الباري" وعلى مر القرون حفلت جدة بعلماء أفاضل اشتهرت حلقاتهم الدراسية بالمساجد والمجالس ومن أشهرهم الشيخ / برهان الدين إبراهيم اللقاني . المفتى المحدث المتوفي سنة 1401هـ. .
وذكرت العديد من المراجع أن من بين العلماء المعدودين في عصره بجدة الشيخ / عبد القادر بن مصطفي التلمسانى الطرابلسى الذي تحول من مذهب "الأشاعرة" إلى مذهب أهل السنه . . وقيل أنه كان له تأثيره البالغ على الشيخ / محمد حسين نصيف ، كما تذكر له طباعته لكثير من كتب السلف على نفقت وتوزيعها حيث كان شخصاً ميسوراً وتاجراً ثرياً امتدت تجارته من الحجاز إلى مصر . ورويت عنه الكثير من الفضائل وفعل الخير وجبر عثرات الناس دون الكشف عن نفسه لمن يحسن لإليه وقد توفي عام 1332هـ. والشيخ / عبدا قادر، هو جد الشيخ / عمر التلمسانى المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر . . وهو ابن عمتي شقيقة والدي التي رحلت إلى مصر بعد زواجها منذ قرن من الزمان ولا زالت أسرتينا بجدة ومصر على اتصال لم ينقطع ومصاهره متبادلة ومتجدده حتى اليوم . .
ومن علماء جدة في منتصف القرن الماضي (14هـ) الشيخ / محمد بن حسين بن إبراهيم المشهور بـ (الفقيه) الذي تعلم القراءات على يد الشيخ / احمد الزهرة . . وقد كان يدرس التفسير والحديث وتعلم على يديه الكثير من طلبة العلم بجدة ، وكان إماماً وخطيباً في مسجد عكاش ، وله العديد من الكتب القيمة . وقد توفي عام 1354هـ . .
وفي النصف الأخير أيضاً من القرن الماضي (14هـ) اشتهر بجدة الشيخ / حسن حسنين أبو الحمايل ، إمام وخطيب المسجد الشافعي الذي تضلع في علوم الفقه . وكان مديراً للمدرسة المنصورية . .
كذلك الشيخ / محمد أحمد باشميل ، الذي تولى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بجدة وكانت له مشاركات وأحاديث دينية مع بدايات إنشاء الإذاعة السعودية بجدة ولسنوات طوال . . ومن أشهر مؤلفاته ( لا . يا فتاة الحجاز) .
أيضاً من علماء جدة الأجلاء الشيخ / بكر ادريس - وهو برقاوي الأصل - درس العلوم الدينية في العديد من مدارس جدة . وكنا قد درسنا على يديه بمدرسة الفلاح ، كما درس في السبع قصور بالإضافة إلى الدروس والمواعظ التي كان يلقيها في المساجد ، وكان إماماً وخطيباً في مسجد عكاش.
ولعل جيلنا وهو جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري كان أكثر حظاً واستمتاعاً بتلك الروابط الروحانية والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع . . ودعني أسجل تلك اللوحة التي عايشناها .
كانت العوائل تنام على أسطح منازلها ، ولكل منا فراشه الخاص الذي يفرشه مبكرا لعل تساقط قطرات الندى عليه يكسبه بعض البرودة ، والجميع ينام بعد صلاة العشاء بعد الاستمتاع بحكاية من الحكايات المشوقة من كبار السن الذين لا يخلو أي بيت منهم . . ثم يطفئ الفانوس أو الاتريك . . وعلى ضوء القمر يستغرق الجميع في النوم. .وكان في كل حارة بعض المحتسبين المتطوعين الذين يمرون في الأزقة بعد أذان الفجر الأول فيوقظون أصحابها لأداء الصلاة .
وكان في حارة اليمن العم محمد عثمان خميس ، يرحمه الله الذي كان يتمتع بصوت شجي يشق صمت الحارة وظلمة الليل . وأذكر أنه كان يمر بجوار بيتنا يومياً لإيقاظ الوالد يرحمه الله والجيران وينادي بالاسم على من يوصيه بذلك فيجيبه المنادي عليه بالشهادة . وكنا نستيقظ في نشوة وانشراح للخروج مع الوالد للصلاة . . وأذكر بعض ما كان يردده العم محمد عثمان خميس أثناء جولته فيقول
" لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير"
ثم يردد:
أصح يا نايم = وحد الدايم
يا عباد الله = وحدوا الله
أفلح من قال = لا إله إلا الله
ومن يوصيه بالاسم يردد اسمه مرتين : يا محمد الصلاة أو يا صالح الصلاة . . وهكذا . المهم أننا نتوضأ وننزل إلى الزاوية المجاورة مع الوالد فنجد أن كل الآباء من الجيران يصطحبون معهم أبنائهم . فنلتقي بأقراننا في بيت من بيوت الله وتتوطد العلاقات بين الجميع . .
ولما كانت غالبية بيوت جدة تقيم صنادق خشبية "حظائر" ملاصقة لجدار البيت بغرض تربية الأغنام والدجاج . فقد كنا شأن غالبية الجيران يتجه بعد صلاة الصبح إلى الحظيرة حاملين المواعين ( حله أو قدر) حيث يقوم الوالد بحلب الأغنام ومن ثم تكييسها وإطلاق سراحها في الأزقة مع شراء الفول بقرشين وتتجمع كل العائلة للإفطار . وبعده نقرأ القرآن حتى يحين موعد توجهنا إلى المدرسة بانشراح وإقبال.
أما من لا يقتني الأغنام فكان يشتري اللبن والحليب من اللبانة الذين كانوا يبيعون اللبن في زبادي صغيرة ترص على لوح خشبي يغطى بالشاش في الأسواق ، أما في الدكاكين فترص في نملية من الخشب واجهتها من السلك الدقيق . . وكانت القشدة أغلا ثمناً وذات لون مائل للصفرة لغناها بالدسم . .
هذا وكان الحليب عند البائع يوضع في وعاء مخصوص يسمى السطل ويشترى عادة في بكرج وبشكل عام فإن رائحته ونكهته مشهية مما يدل على أن البضاعة طازجة . .
هذا وقد كان بعض اللبانة في مرحلة مبكرة يحملون طبلية اللبن على رؤسهم وعليها الزبادي في حين يمسك بعضهم بيده بسطل مملوء من الحليب الطازج ومعه مغراف صغير ويتجول في الحواري والأزقة لبيع بضاعته .
ومن أشهر اللبانة في القرن الرابع عشر الهجري كل من أحمد شعيب ، وعباس دبوس والبرمبالى ، وعبد الله وعمر عبد الدائم ومحمد خميس وصادق وصدقة باجوه ومحمد أفندي وعثمان زمريق وعبود باشوية ومحمد غراب وإبراهيم عبد الهادي صعيدي وأحمد شلبي ، وسالم وعمر عماري ومعاذ أبو الجدايل وغيرهم . .
هذا و يعتبر الشيخ / أحمد شعيب أكبر اللبانة ، وكان مسئولاً عن تأمين الحليب و مشتقاته إلى القصر في عهد الملك عبد العزيز يرحمه الله . .
ونتيجة لإنشاء مصانع الألبان الحديثة تقلصت صناعة الألبان التقليدية وأصبحت في حدود ضيقة جداً .
المهم أن تلك البساطة كانت سمة متأصلة بين الناس . لذا تجدهم داثماً مشرقي الطلعة يغمرهم البشر . بعكس محاولات صناعة الفرح في هذه الأيام التي طفت عليها تعقيدات الحياة ومادياتها فتأتي فيها الفرحة باهته نتكلفة.
وقد عرفت جدة الكثير من النساء العصاميات أيضاً من خارج الأربطة ولهن كفاح مشهود في الكسب الشريف لتربية أيتامهن وإعالة أنفسهن.ومن هؤلاء سيدة تسمى ( خديجة مقلية ) وكانت تبسط كل يوم بعد المغرب في سوق الجامع أمام المسجد الشافعي لصنع وبيع المقلية والصالونه ( السلطة ) المخصصة لها . وكذلك كانت سيدة أخرى تدعي ( زردخ ) لها بسطة أمام مقلي يعقوب بحارة المظلوم تبيع فيها ( المقلية ) .
المرجع
( كتاب جدة .. حكاية مدينة– لمحمد يوسف محمد حسن طرابلسي–الطبعة الأولى 1427هـ ، 2006م)