مشاهدة النسخة كاملة : معجزة نوح عليه السلام
ريمة مطهر
04-27-2011, 02:09 PM
نـوح
فار التنور
قال تعالى : { فأوحينا اليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنّور فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول منهم , ولا تخاطبني في الذين ظلموا , إنهم مغرقون } . المؤمنون : 27.
1- إلى من أرسل نوح
كل نبي أرسل لأمة , فموسى لبني إسرائيل , ومحمد لقريش وللعالمين , وصالح لقوم ثمود , وهود إلى قوم عاد , وهكذا . وأما نوح فلمن أرسل من القوم ؟ أرسل الى أولاد قابيل بن آدم ومن تابعهم من ولد شيت بن آدم ( العرائس للثعلبي ) وقد تحدث المفسرون عن ذلك فقالوا : كان لآدم نسلان من أولاده أو قبيلتان إحداهما تسكن السهل والوادي الأخضر والآخرى تسكن الجبل . وكان للرجال في القبيلة التي تسكن الجبل جمال وروعة أما نساؤهم فكنّ ذوات دمامة وقبح . فالرجال أجمل من النساء كثيراً , أما القبيلة التي تسكن السهل والوادي فكانت نساؤها رائعة الجمال لا يستطيع الرجل أن يمعن النظر فيهن لشدة جمالهن , أما الرجال فكانوا على عكس ذلك فقد كانوا من القبح والدمامة بمكان فلا تطيق أن تعيش معهم من الدمامة والقبح .
واستغل إبليس هذه المفارقة العجيبة وأراد أن يخلطهما ببعض حتى تشيع الفاحشة بينهم , فنزل على رجل من أهل السهل , وجاءه على هيئة غلام ليعمل في بستانه وزرعه , فاستأجره وجعله خادماً له , فجاء لإبليس بمزمار يحدث صوتاً مثل مزامير الرعاة للغنم , وبدأ يحدث به صوتاً عالياً ليسمع قبيلة الجبل صوتاً غريباً فجاؤوا على هذا الصوت , وأقاموا حفلاً جعلوه عيداً كل عام يأتون إليه وبدأت نساء السهل تخرجن متبرّجات وهن على قدر من الجمال- فرآهن الرجال , وهرع رجل من الجبل إلى أصحابه يحكي لهم عن الخبر فتحولوا إليهم ونزلوا معهم وظهرت الفاحشة الكبرى وحقق ابليس ما كان يريده , فلقد أقسم في السماء ليغوينهم أجمعين إلا الصالحين منهم والمؤمنين بالله عز وجل .
وكثر بنو قابيل وظهرت المعصية , وأكثروا الفساد - وأصبح إبليس وأبنائه بينهم يفعلون بهم ما يريدون ويدعوهم إلى المعصية فيستجيبون .
وقد كانت الفترة ما بين وفاة آدم ونوح عليهما السلام حافلة بالايمان والفساد وممن آمنوا وكانوا صالحين : ودّاً ويغوث , ويعوق , وسواع , ونسر كانوا قوماً صالحين وكان لهم أتباع يقتدون بهم . ( تفسير ابن كثير سورة نوح ) .
وتذكر أن آدم عليه السلام له أربعون ولداً عشرون غلاماً وعشرون جارية فكان ممن عاش منهم هابيل وقابيل , وود , كان ود يقال له : شيث ويقال له هبة الله , وقد جعله إخوته رئيساً وسيداً عليهم , وولد له سواع ويغوث ويعوق ونسر .
كان " ود " رجلاً صالحاً كما ذكرنا , وكان محبباً في قومه , فلما مات عكفوا على الجلوس حول قبره في أرض بابل وحزنوا عليه حزناً شديداً وأصبحوا يزورون قبره بصفة دائمة , ورأى إبليس حالهم هذا وجزعهم عليه فأراد أن يستثمر هذا الضعف فيهم فتشبّه بصورة إنسان ثم قال لهم : إني أرى جزعكم على هذا الرجل , فهل لكم أن أصوّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به ؟ . فقالوا : نعم .
فصنع إبليس صنماً مثل " ود " فوضعوه في ناديهم فجعلوا يقدّسون الصنم ويذكرونه صباح مساء .
فلما رأى إبليس ذلك منهم واطمأن إلى غيّهم قال لهم في خطوة جعلته يتمكن من عقيدتهم ويفسدهم- قال : هل أجعل لكم في منزل كل منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه , وتعبدونه ؟ قالوا : نعم .
فصنع لكل أهل بيت تمثالاً مثله , فأقبلوا على هذه التماثيل الأصنام التي حملت اسم الرجل " ود " ولما جاء أبناؤهم أدركوا ما يفعله الآباء , جعلوا يقلّدونهم فيما يصنعون بهذ التماثيل من عبادة وتأليه , وتواليت بعد ذلك أجيالهم وأحفادهم في عبادة الأصنام , ونسوا " ود " الرجل الصالح وجعلوه صنماً يعبد من دون الله وبذلك استطاع إبليس أن يحول اسم الرجل الصالح الى رمز للوثنيّة والكفر , فكان " ود " أول ما عبد غير الله , وكان أول صنم يعبد من غير الله اسمه " ود " . ( قصص الأنبياء لابن كثير ) .
وقد أضل بهذ الأصنام كثيراً من الأمم فقد استمرّت في عبادتها هذه الأمم قروناً عديدة حتى إلى زمان جاهلية العرب قبل الاسلام وقد قال المفسرون ( ابن عباس في تفسير ابن كثير ) : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ذلك . فمثلاً " ود " كان صنماً لبني كلاب بن الجندل , وأما سواع فكانت لهزيل , وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف - عند سبأ- وأما " يعوق " فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع وكلها قبائل عربية قديمة - وهي أسماء قديمة لرجال صالحين عاشوا في زمن قبل نوح عليه السلام ما بين آدم ونوح .
وقد كان بين نوح وآدم عليهم السلام عشرة قرون , كلهم على شريعة من الحق , فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين , وقد جاء القرآن ، بقوله تعالى : { وما كان الناس الا أمّة واحدة فاختلفوا } البقرة : 213, كانوا على الهدى جميعاً فاختلفوا , وزيّن لهم الشيطان عبادة الأصنام , فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين , فكان أول نبي بعث نوح عليه السلام . تاريخ الطبري .
ريمة مطهر
04-27-2011, 02:12 PM
2- مئات السنين
إن الله تبارك وتعالى لما أجمع القوم على العمل بما يعصيه سبحانه عز وجل ويكرهه من خلقه من ركوب الفواحش وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعته عز وجل . لما رأى منهم كل ذلك أرسل نوحاً إليهم وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة , وقيل أربعمائة وثمانين سنة , ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين , وقيل أنه دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة . وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة , ثم مكث بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين سنة . تاريخ الطبري .
لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كما قال الله عز وجل يدعوهم إلى الله سراً وجهراً , فيمضي قرن ( مئة سنة ) بعد قرن , فلا يستجيبون له حتى مضى على ذلك ثلاثة قرون وهو يدعوهم جهاراً نهاراً - وهم من دعوته على حالهم , لا يسمعون له ولا يستجيبون . كان كلما دعاهم هجموا عليه وخنقوه حتى يغشى عليه , ويسقط على الأرض مغشياً عليه , فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون , وكان هذا العمل يتكرر دوماً سنوات وسنوات وقيل أن نوحاً كان يضرب من قومه حتى الوهن والضعف والمرض ويلف في ثياب كأنه مات , ويظن أنه قد مات , ثم يخرج فيدعوهم مرّة أخرى . ( العرائس للثعلبي ص 47 ) .
كان يخرج مرّة أخرى ومرات يدعوهم , حتى كان الآباء يقولون للأبناء : قد كان نوح مع آبائنا وأجدادنا , وأجداد أجدادنا - إنه رجل مجنون لم يقبلوا منه دعوة دعاها ونحن لن نقبل دعوة يدعوها .
وذات يوم جاء رجل ومعه ابنا يتوكأ على عصا مما أصابه من الشيخوخة , فقال العجوز لابنه وهو يشير إلى نوح : أنظر يا بني إلى هذا الشيخ إيّاك أن يغرّك . فقال الابن لأبيه : يا أبت أعطني العصا التي تتوكأ عليها .
فأعطاه أبوه الشيخ العجوز العصا التي كان يتوكأ عليها وجلس على الأرض , فمشى الابن إلى نوح عليه السلام , فضربه عدّة ضربات ولكن نوح عليه السلام لم ييأس وظلّ يدعو قومه عشرات ومئات السنين ولكن دون جدوى . ( قصص الأنبياء لابن كثير ص 65 ) .
دعا نوح قومه إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له , وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً ولا طاغوتاً وأن يعترفوا بوحدانيّته , وأنه لا إله غيره ولا رب سواه . وقال لهم نوح : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } .
وقال : { أن لا تعبدوا إلا الله , إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } .
وقال لهم نوح : { يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } .
ترى بماذا أجابوا نوح بعد أن دعهم إلى الله عز وجل بكل أنواع الدعوة في الليل والنهار , والسر والعلانية , بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى , فلم ينجح كل هذا , واستمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام , ونصبوا لنوح العداوة في كل وقت وأوان , وتنقصوه وسخروا منه .
وقالوا له : { إنا لنراك في ضلال مبين } .
وقال لهم نوح : { يا قوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول من ربّ العالمين } أي إنني لست كما تزعمون من أني ضال , بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين , أي الذي يقول للشيء كن فيكون .
ثم قال نوح : { أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون } .
هكذا أجابهم نوح في بلاغ وذكاء وكلام مقنع لا جدال فيه .
فقالوا له : { ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين } .
تعجب القوم أن يكون نوح بشراً رسولاً , وتنقصوا ممن اتبعه وقالوا : إنهم أراذلنا أي : الضعفاء منا , والأقل مكانة ومستوى منا , فنحن أفضل منهم مالاً وحسباً ونسباً ولأنهم كذلك يا نوح : ضعفاء فقراء أراذل فقد استجابوا بمجرد ما دعوتهم إليه من غير نظر ولا رويّة ولا تمحيص .
ونسي هؤلاء الكفار أن الحق ظاهر لا يحتاج إلى رويّة ولا فكر ولا نظر.
وظلوا يعترضون ويجادلون نوحاً ومن آمن معه , فقالوا : { وما نرى لكم علينا من فضل } أي : لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالايمان ولا ميّزة علينا . واتهموه وقومه بالكذب وقالوا : { بل نظنّكم كاذبين } .
عند هذا الحد تحدث نوح عليه السلام بأنه صادق ولن يلزمهم أو يكرههم على شيء وأنه لا يريد منهم أجراً على دعوته إياهم , وإن طلبت أجراً فإني سأطلبه من الله الذي ثوابه وأجره أفضل مما عندكم وخير مما تعطونني , ولن أطرد هؤلاء ولن أبعدهم عني فقد آمنوا بربهم مهما عرضتم من إغراءات .
قال لهم نوح : { أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وءاتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } هود : 29.
وقال نوح : { وما أنا بطارد الذين ءامنوا , إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون } . هود : 29.
وقد تطاول الجدال والزمان بينهم وبين نوح عليه السلام , وكان كلما انقرض جيل منهم وصّى من بعده بعدم الايمان بدعوة نوح ومحاربته ومخالفته , وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل جلس إليه ووصاه فيما بينه وبينه , ألا يؤمن بنوح أبداً ما عاش وما بقي .
وقالوا : { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } . هود : 32.
ثم طلبوا معجزات ظنوا أن نوح لن يقدر عليها بأمر الله فقالوا : { فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين } هود : 32.
وجاء ردّه الأخير : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم , هو ربّكم وإليه ترجعون } هود: 34.
وجاء التأكيد من الله عز وجل أنه لا فائدة من هؤلاء فلن يؤمن منهم أحد إلا من آمن . وقال الله عز وجلّ لنوح : { وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } هود : 36.
وبدأ نوح عليه السلام ينتظر أوامر أخرى من ربّه .
ريمة مطهر
04-27-2011, 02:15 PM
3- بدء المعجزة الكبرى
بدأت المعجزة الكبرى لنوح عليه السلام بحوار جميل بينه وبين ربّه وكان بمثابة تقرير كامل عما كلفه الله به من عمل جاء في هذا الحوار الكريم : { قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً* فلم يزدهم دعائي إلا فراراً * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً * ثمّ إني دعوتهم جهاراً * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم اسراراً * فقلت استغفروا ربّكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً } نوح : 5-11.
وظلّ نوح عليه السلام يذكر لقومه ما دعاهم إليه , ويصوّر لهم عظمة الله في خلقه , ويبيّن لهم نعم الله عليهم - ولم يكن لهذا إجابة أو سبيل- فقد ضلوا ضلالاً شديداً , وزاد فسادهم وخبثهم مع كثرة جدالهم وإحساسهم بأنهم الأكثر فهماً وعلماً من نوح وهنا قدّم نوح عليه السلام نتائج عمله طوال مئات السنين وصبره على أجيال وأجيال منهم , فدعا ربه أن يهلكهم حتى لا يفسدوا في الأرض ويضلوا غيرهم ضلالاً بعيداً وقال : { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } نوح : 26-27.
وجاء الأمر الكريم الذي حمل في طيّاته معجزات عظيمة .
قال الله تعالى لنوح عليه السلام : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } هود : 37.
ولربما قال نوح : يا رب وما الفلك ؟
فقال له : بيت من خشب يجري على وجه الماء حتى أغرق أهل المعصية وأريح أرضي منهم .
ربما سأل نوح عن الماء , وهو يعلم أن الله على كل شيء قدير .
وقيل أن نوحاً سأل عن الخشب , فأمره ربّه بغرس شجر الساج كثير الخشب عظيم الأصول والفروع , فأمره الله تعالى بذلك وظلّ يغرس ويغرس وانتظر أربعين عاماً حتى أصبح الشجر غابات هائلة . وفي هذه السنوات توقف نوح عن دعوة قومه إلى عبادة الله فلم يدعهم فأعقم الله تعالى أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد , فلما كبر الشجر أمره ربه أن يقطع الشجر فقطعه وجففه ثم قال : يا رب كيف أتخذ هذا البيت أي كيف أصنع هذه السفينة ؟ فقال له : اجعله مائلاً على ثلاث صور رأسه كرأس الديك وجوفه كجوف الطير وذنبه كذنب الديك مائلاً واجعلها متطابقة واجعل أبوابها في جنبيها واجعلها ثلاث طبقات واجعل طولها ثمانين ذراعاً وارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً . أورد هذا الثعلبي في العرائس وقال أن هذا قول أهل الكتاب . ص 47-48.
هذا المجنون يتخذ بيتاً يسير به على الماء - يقصدون السفينة - ثم يضحكون .
وقد جاءت صورة هذا المشهد في القرآن الكريم في قوله تعالى : { ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه} هود : 39. أي يستهزئون به وقد استبعدوا أن يحدث ما توعّدهم به .
فيجيب عليهم نوح قائلاً : { قال إن تسخروا منّا فانّا نسخر منكم كما تسخرون } . هود : 39.
ثم أضاف موضحاً ما توعّدهم بأنه وقومه سوف يسخر منهم ويتعجب منهم من استمرارهم على كفرهم وعنادهم الذي سوف يقتضي وقوع العذاب بهم وحلوله عليهم لاحقاً ( قصص الأنبياء لابن كثير ص 180 ) , مؤكداً وقوع ذلك بقوله : { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم } هود : 39.
وأوحى الله إلى نوح عليه السلام أن عجّل صنعة الفلك , وانته من صناعة السفينة , فقد اشتد غضباً على من عصاه - عند ذلك استأجر نوح أجراء وعمّال يعملون معه في صنع السفينة وأولاده سام وحام ويافث ينحتون معه السفينة فجعلها ستمائة وستين ذراعاً للطول وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعاً وطولها في السماء ثلاثة وثلاثين ذراعاً وطلاها بالقار داخلها وخارجها بعد أن فجر الله له عين القار بجوار السفينة تغلي غلياناً وشدّها بالمسامير الحديد وطلاها كلها بالقار , وجاء في قوله عن المسامير الحديد : { وحملناه على ذات ألواح ودسر } .
وقد كان عيسى بن مريم يحيي الموتى بأمر الله , فقال له الحواريون : لو بعثت لنا رجلاً من قبره يكون قد رأى سفينة نوح فيحدثنا عنها ! فانطلق عيسى عليه السلام والحواريون خلفه حتى وصل إلى كثيب من تراب , فأخذ حفنة من التراب وقال : أتدرون ما هذا التراب ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم !!
قال عليه السلام : هذا قبر حام بن نوح , فضرب التراب بعصاه وقال : قم بإذن الله , فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه , وقد شاب شعره وأصبح شيخاً عجوزاً , فقال له عيسى عليه السلام : أهكذا مت وهلكت ؟
فقال حام بن نوح : لا , ولكني مت وأنا شاب ؛ ولكني ظننت أنه الساعة ( يوم القيامة ) فشبت من الخوف .
فقال عيسى عليه السلام : حدّثنا عن سفينة نوح .
قال : كان طولها ألف ذراه ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات : فطبقة فيها الدواب والوحوش , وطبقة فيها الإنس , وطبقة فيها الطير .
فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل , فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة , فأقبلا على روث الحيوانات . رواية الطبري في تاريخه عن ابن عباس ج 1 ص 181 طبعة إحياء التراث .
ريمة مطهر
04-27-2011, 03:12 PM
4- فار التنور
نعود إلى نوح عليه السلام .
انتهى نوح من السفينة فبناها , وأعدها كما يجب , وما بقي إلا إيجاد البحر الذي ستبحر عليه وتتطهر الأرض بمائه من دنس الكفار .
حدّد الله مكان وزمان البداية بأمر عظيم وكريم , فجعل خروج الماء من التنور وفورانه هو بداية المعجزة الكبرى التي هزت الدنيا بأسرها , وقد كانت كلمة السر أو علامة السر هي فوران التنور , وقد قالوا عن فوران التنور عدة أقوال أولها : أنه طلوع الفجر وبزوغ الصباح .
وأشهر ما قيل في التنور أنه مكان صناعة الخبز , وكان فرناً أو تنوراً من حجارة , وكان لآدم ثم انتقل إلى نوح فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك . فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وقالت له : لقد فار الماء من التنور .
وقيل أن التنور فار في الكوفة , وقيل بالشام في موضع اسمه عين الورق , وقيل أنه بالهند . تاريخ الطبري ج1 ص 182 والعرائس للثعلبي ص 48.
فلما رأى نوح فوران التنور علم أنها البداية , بداية هلاك قومه .
كان فوران الماء علماً واخباراً لنوح عليه السلام ببداية معجزته كنبي ودليلاً على هلاك قومه - كان الأمر الرباني من جزئين :
الجزء الأول : إشارة البدء المتفق عليها والموصى بها لنوح عليه السلام وهي فوران التنور .
أما الجزء الثاني فكان كما ذكرت الآية الكريمة : { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن , وما ءامن معه إلا قليل } هود : 40.
وقد قال المفسرون : إن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة فأقبلت الوحوش والطير والدواب إلى نوح حين أصابها المطر , وسخرت له , فحمل كل منها كما أمره الله عز وجل : { من كل زوجين اثنين } وبدأ في إدخال الحيوانات والطيور وكان آخر ما حمل الحمار فلما دخل الحمار بصدره تعلق إبليس بذنبه أو ذيله فلم تستقل رجلاه فجعل نوح يقول أدخل فينهض فلا يستطيع - حتى قيل أن نوح قال : ويحك أدخل وإن كان الشيطان معك - كلمة زلّ بها لسان نوح فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه . فقال له نوح : ما أدخلك يا عدو الله - فقال الشيطان : ألم تقل أدخل ولو كان الشيطان معك ؟ّ!
قال نوح : أخرج يا عدو الله ..
فقال : ما أخرج - وزعم المؤرخون أنه أي الشيطان كان في الفلك . عرائس المجالس ص 49.
وقيل أن الحيّة والعقرب أتيا نوح فقالا : احملنا فقال : إنكما سبب الضرر والبلايا فلا أحملكما .
قالا : احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك , فمن قرأ حين يخاف مضرتهما ( الحية والعقرب ) من قرأ : { سلام على نوح من العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين } لم يضراه أو يصيبه أذى أبداً .
وقيل أن نوح عليه السلام قال : يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر , وكيف أصنع بالعناق والذئاب , وكيف أصنع بالحمام والقط ؟
قال الله تعالى لنوح : من ألقى بينهم العداوة يا نوح ؟
قال نوح عليه السلام : أنت يا رب العالمين .
فقال عز وجلّ لنوح : فأنا الذي أؤلف بينهم حتى لا يتضاروا ولا يضرّ بعضهم بعضاً .
فحمل نوح عليه السلام السباع والدواب في الطبقة الأولى .
فألقى الله على الأسد الحمى وشغله بنفسه عن الدواب والبقر .
وجعل الوحوش في الطابق الثاني من السفينة , وركب هو ومن معه من أولاد آدم في الطبقة العليا .
وهبط جبريل عليه السلام إلى الأرض .. وحمل إلى نوح عليه السلام في السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين , بقرة وثوراً , فيلاً وفيلة , عصفوراً وعصفورة , نمراً ونمرة , قطاً وقطة .. إلى آخر المخلوقات .
كان نوح عليه السلام قد صنع أقفاصها للوحوش وهو يصنع السفينة .. وساق جبريل عليه السلام أمامه من كل زوجين اثنين , لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض .
وهذ دليل على أن الطوفان أغرق الأرض كلها , فلولا ذلك ما كان معنى لحمل كل هذه الأنواع من المخلوقات حيوان وطير- أليف وغير أليف صعدت كل هذه الحيوانات والوحوش والطيور كما ذكرنا , وصعد الذين آمنوا مع نوح , قيل إنهم كانوا ثمانين إنساناً . ابن عباس , العرائس ص49.
كان عدد المؤمنين قليلاً .
فقد جاء تأكيد ذلك في الآية الكريمة : { وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن , وما ءامن معه إلا قليل } . هود :40.
انتهى كل هذا وأصبحت السفينة جاهزة على الأرض . وانتظر نوح ومن معه أمر الله سبحانه عز وجلّ , وقد جعل الله فوران التنّور آية بينه وبين نوح وعهد الله إليه فقال : إذا رأيت التنور قد فار فاركب أنت ومن معك على الفلك واحمل فيها من كل زوجين اثنين كما قال الله تعالى : { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } .
جاء أمر الله هنا أي : جاء عذابه وهو الطوفان الهادر .
لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد إلى السفينة وهي أم أولاده كلهم وهم : حام وسام ويافث ويام , ويسميه أهل الكتاب كنعان , وهو الذي قد غرق في الظوفان , فقد ماتت قبل الطوفان وقيل أنها غرقت مع من غرق , وكانت ممن سبق عليها القول لكفرها . وقد نزلت فيها الآية الكريمة في سورة التحريم في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط , كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين } .
وبدأ الطوفان الهادر .. وما أدراك ما الطوفان الهادر ..
جاء وصف الطوفان في القرآن - حينما جاء أمر الله - وفار التنور في الفرن الكائن في بيت نوح عليه اليلام .
قال القرآن الكريم عن الطوفان الذي سبقه دعاء نوح , قال نوح : { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } .
ماذا حدث بعد هذا الدعاء ؟ بدأ الطوفان الهادر بأمر من الله , إذ يقول الله عز وجل : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } , { وفجرنا الأرض عيوناً } .
أرسل الله من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده , وكان كأفواه القرب , وأمر الله الأرض فنبعت من جميع أرجائها .. آباراً وعيوناً تضخ بالماء .
ارتفع الماء إلى أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً وهو الذي قاله أهل الكتاب وقيل ثمانين ذراعاً . وعمّ جميع الأرض طولها والعرض سهلها وحزنها , وجبالها وقفارها ورمالها , ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ولا صغير ولا كبير , وكان أهل ذلك الزمان قد ملؤوا السهل والجبل , فلم تكن بقعة على الأرض إلا ولها ملك وصاحب وحائز . قصص الأنبياء لابن كثير ص 73.
ارتفعت المياه من فتحات الأرض , لم تبق هناك فتحة في الأرض إلا وخرج منها الماء انهمرت من السماء أمطاراً غزيرة بكميّات لم تر مثلها الأرض , ومضت ساعات وساعات وانفجرت حركة غير عادية , ارتفعت قيعان المحيطات ارتفاعات مفاجئة , واندفع موج البحار يكتسح الجزء اليابس من الأرض .
وغرقت الكرة الأرضية للمرة الأولى في المياه .
لم تعد كرة أرضية , بل أصبحت كرة مائية , لأن الطوفان أغرقها جميعاً بالماء ولم يبق فيها أرض يابسة أبداً .
وقد ذكر أن الطوفان حدث في شهر أغسطس , في الثالث عشر منه . تاريخ الطبري ج 1 ص 189 ط المعارف .
وقد طغى الماء وارتفع الموج ارتفاعاً هائلاً , وقال عز وجلّ : { إنا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية } الحاقة : 11-12.
كان كنعان بن نوح عليه السلام كافراً , ولم يكن نوح يعرف هذا عنه حتى جاءت لحظة الطوفان , وكان يتصوّر أنه مؤمن عنيد , اختار النجاة باللجوء إلى الجبل , وكان ارتفاع الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يعرف نوح أنه مؤمن وقد جاء هذا الحوار في القرآن الكريم : { وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء , قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم , وحال بينهما الكوج فكان من المغرقين } .
وعندما حال الموج بين موح عليه السلام وبين ابنه , ولم يكن نوح قد تأكد من ايمان ابنه , ولم يعلم أنه من الكافرين . لجأ نوح عليه السلام الى ربه ترى ماذا قال نوح عليه السلام لربه في شأن ابنه . ذلك ما ترويه الآية المباركة فتقول : ونادى نوح ربه فقال : { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } هود :45 .
أراد نوح أن يقول لربه , أن ابنه من أهله , وقد وعده الله بنجاة كل أهله المؤمنين . فجاء الرد من الله عز وجلّ لنوح عليه السلام , ليكشف حقيقة هذا الابن الغريق .
قال تعالى : { قال يا نوح إنه ليس من أهلك , إنه عمل غير صالح , فلا تسئلن ما ليس لك به علم , إني أعظك أن تكون من الجاهلين } هود : 46.
غرق الابن , وغرق أهل الكفر والطغيان , وبدأت رحلة العودة , العودة للأرض الطاهرة التي خلت تماماً من الكفر والكفار .
جاء الأمر من الله : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } فتوقف الماء الذ كان يتدفق من العيون .
{ ويا سماء أقلعي } فتوقف الماء المنهمر من السماء .
{ وغيض الماء } بمعنى أنه نقص , وانصرف عائداً إلى باطن الأرض .
ورست سفينة نوح عليه السلام على الأرض , وهلك الظالمون , وقال رب العزة لنوح : { اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك , وأمم سنمتعهم ثم يمسّهم منا عذاب أليم } .
ورست السفينة , وهبط نوح عليه السلام , وأطلق سراح الطيور والوحوش فتفرّقت في الأرض جميعاً , وعلم نوح عليه السلام أن الأرض قد جفت ويبست من الماء عندما بعث غراباً يأتيه بالخبر , فوجد " جيفة " فظلّ يأكل منها واشتغل عنه بالأكل ولم يرجع إليه فدعا عليه بالخوف ولذلك الغراب لا يألف البيوت . العرائس ص 51.
ثم بعث الحمامة فطارت وجاءت عائدة بغصن زيتون بمنقارها وطين برجليها فعلم أن البلاد قد جفت وطوقها بالخضرة التي نجدها في عنق الحمام أحياناً ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت , ويربيها الناس فلا تخاف وتطير مسافات وتعود إلى أصحابها .
هذه هي معجزة نوح , لم تكن معجزة التنور الذي فار منه الماء وحده وإنما حياة نوح ألف سنة إلا خمسين معجزة .
وبناء السفينة وما احتاجه من زراعة الشجر وانتظار خشبه عشرات السنين معجزة .
وركوب السفينة مع الحيوانات على اختلاف أنواعها معجزة .
والطوفان الهادر معجزة , والهبوط معجزة .
إنها معجزات النبي نوح عليه السلام وليست قصة حياته .
المرجع
معجزات الأنبياء - عبد المنعم الهاشمي