ثروت كتبي
01-30-2011, 02:36 PM
ذهبت المستوطنات وبقيت المقابر لنتذكر
إنه من المحير حقاً أن يجد الإنسان مئات المواقع لمدافن الإنسان القديم في شبه الجزيرة العربية، بعضها يحتوي على آلاف القبور، وأحياناً يكون هذا العدد في أماكن غير مأهولة في الوقت الحالي؛ وفي الوقت نفسه لا يجد مستوطنات لذلك الإنسان تتماشى في حجمها ومكوناتها مع المستوى المعيشي العالي الذي تعكسه حياة من دفنوا في تلك القبور. فأين بقايا مستوطنات من خلف تلك القبور؟ وعلى ماذا كان اقتصاده يقوم؟ لا بد أنه كان نشطاً اقتصادياً ولديه ما يتاجر به، بل لا بد أنه كان لديه أشياء نفسية تهم العالم القديم بأجمعه. أين اختفى أثر ذلك الإنسان؟ وما هي تلك الأشياء؟ سؤالان من أسئلة لن نجيب عليها إلا بالبحث الميداني الذي يجب أن يكثف ويدعم.
ترك الإنسان القديم للإنسان الحديث مقابر موتاه التي اعتنى باختيار أماكن تشييدها فبقيت على مدار آلاف السنين تقاوم عوامل الزمن. وعُرفت تلك المقابر باسم المنشآت الحجرية أحياناً، والتلال الركامية في أحيان أخرى، وذلك حسب طبيعتها، وتكثر التلال الركامية في الأماكن التي لا توجد فيها حجارة، وتكثر التلال الحجرية في الأماكن التي تتوفر فيها الحجارة، ويظهر كلا النوعين بأنماط متعددة لعل أشهرها الدائري، والمستطيل، والمربع، والمذيل، والعنقودي، والثنائي، والمركب، والرجم قمعي الشكل، والرجم ذو الحرم الدائري. وقد تم تنقيب نماذج من كل نوع من هذه الأنواع في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية وفي بلدان الجزيرة العربية الأخرى فوجد داخله صندوق دفن للميت إما أن يكون دائري الشكل أو بيضاوي أو مستطيل.
ولعل من أحدث الأعمال التي نُفذت في هذا المجال عمل تم في دولة الكويت، ونُشر تقرير عنه عام 2006م بقلم سلطان الدويش وحامد المطيري وبعنوان (نتائج التنقيب في تلال مدافن الصبية)، نُشر عن طريق المجلس الثقافي الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت. تقع منطقة الصبية في شمالي دولة الكويت، ويعود اكتشاف المدافن الركامية الحجرية فيها إلى عام 1999م، وفي عام 2004م كُون فريق من جميع دول مجلس التعاون الخليجي للعمل في تلك المدافن واستناداً إلى نتائج هذا العمل ونتائج الأعمال السابقة له صنفت التلال إلى ستة أنواع:
النوع الأول: تل ذو شكل دائري ضخم، النوع الثاني: تل مخروطي قمته مقببة، النوع الثالث: تل بيضاوي عند القاعدة ومخروطي القمة، النوع الرابع: تل مستطيل الشكل، النوع الخامس: تل له شكل حلقي ويتكون من ثلاث حلقات صخرية، النوع السادس: منشآت مذيلة وهي قليلة. وكنتيجة للتنقيب في هذه المدافن عُرف أنها تحتوي على أماكن مشيدة ومخصصة لدفن الموتى. ومن الوصف الوارد في التقرير يكون المكان متسعاً في الأسفل ويضيق كلما أتجه إلى الأعلى لتأخذ فتحة مكان الدفن شكلاً ضيقاً لكي يوضع عليها الغطاء.
أما في جنوب الجزيرة العربية فتنتشر المدافن الركامية الحجرية في محافظات صعدة، وشبوة، ومنطقة رويك، وتغطي مسافات طويلة، وقدر عددها بسبعة آلاف منشأة. ومسح منها عام 1998م جبل رويك ووجد أن قمته تمتد لمسافة 13 كيلومتراً، ويبلغ عرضها 5 أمتار وقدر ما عليها من قبور ركامية بثلاثة آلاف قبر منها القبور الدائرية العالية، والقبور المذيلة، والقبور المجتمعة. وفي ضوء حفريات تمت أرخ جزء من هذه القبور بواسطة كربون 14 المشع إلى ما بين 2900 و2600 قبل الميلاد. كما عُثر في البعض منها على مواد أثرية منقولة مثل الخرز والفخار.
وقامت بعثة ألمانية بإجراء دراسة ميدانية لبعض مواقع المنشآت الحجرية في سلطنة عمان في منطقة سمد الشأن، ووجد أن أقدمها في المقابر المشيدة على شكل ركامات حجرية والتي أرخت إلى فترة تمتد من 2000 قبل الميلاد إلى 1600 قبل الميلاد، وفترة أخرى تمتد من 1600 قبل الميلاد إلى 1300 قبل الميلاد. أما في دولة البحرين فدراسة التلال الركامية بدأت منذ زمن طويل وأجريت عليها العديد من الأبحاث الميدانية ربما أن من أهمها دراسة البعثة الدنماركية التي تعود بدايتها إلى عام 1977م. وتختلف مقابر سار الجسر عن المقابر الركامية الحجرية في كونها مقابر ثلاثية تغطيها الأتربة إلى ارتفاعات قد تصل إلى خمسة أمتار، ولكنها تتماثل مع المقابر الركامية الحجرية في معثوراتها والفترات الزمنية التي تؤرخ إليها وتشييد صندوق الدفن وأمور أخرى. إن كثرة المدافن الركامية الحجرية والترابية التي تقوم على وجه الأرض وتلك التي حفرت في باطنها تدل دلالة قطعية على قوة اقتصاد الإنسان القديم في شبه الجزيرة العربية وكثرة عدده. ولذا لا بد أنه سكن في مستوطنات راقية في الإنشاء والتصميم، فأين تلك المستوطنات؟ أو هل قصد الإنسان باختيار إقامة مقابر في أماكن عالية واعتنائه بتشييدها بشكل ملحوظ وعظ الإنسان الذي يأتي بعده، ليقول له إن البقاء في الحياة الآخرة، وأن الدنيا حياة فناء.
المصدر
جريدة الرياض
إنه من المحير حقاً أن يجد الإنسان مئات المواقع لمدافن الإنسان القديم في شبه الجزيرة العربية، بعضها يحتوي على آلاف القبور، وأحياناً يكون هذا العدد في أماكن غير مأهولة في الوقت الحالي؛ وفي الوقت نفسه لا يجد مستوطنات لذلك الإنسان تتماشى في حجمها ومكوناتها مع المستوى المعيشي العالي الذي تعكسه حياة من دفنوا في تلك القبور. فأين بقايا مستوطنات من خلف تلك القبور؟ وعلى ماذا كان اقتصاده يقوم؟ لا بد أنه كان نشطاً اقتصادياً ولديه ما يتاجر به، بل لا بد أنه كان لديه أشياء نفسية تهم العالم القديم بأجمعه. أين اختفى أثر ذلك الإنسان؟ وما هي تلك الأشياء؟ سؤالان من أسئلة لن نجيب عليها إلا بالبحث الميداني الذي يجب أن يكثف ويدعم.
ترك الإنسان القديم للإنسان الحديث مقابر موتاه التي اعتنى باختيار أماكن تشييدها فبقيت على مدار آلاف السنين تقاوم عوامل الزمن. وعُرفت تلك المقابر باسم المنشآت الحجرية أحياناً، والتلال الركامية في أحيان أخرى، وذلك حسب طبيعتها، وتكثر التلال الركامية في الأماكن التي لا توجد فيها حجارة، وتكثر التلال الحجرية في الأماكن التي تتوفر فيها الحجارة، ويظهر كلا النوعين بأنماط متعددة لعل أشهرها الدائري، والمستطيل، والمربع، والمذيل، والعنقودي، والثنائي، والمركب، والرجم قمعي الشكل، والرجم ذو الحرم الدائري. وقد تم تنقيب نماذج من كل نوع من هذه الأنواع في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية وفي بلدان الجزيرة العربية الأخرى فوجد داخله صندوق دفن للميت إما أن يكون دائري الشكل أو بيضاوي أو مستطيل.
ولعل من أحدث الأعمال التي نُفذت في هذا المجال عمل تم في دولة الكويت، ونُشر تقرير عنه عام 2006م بقلم سلطان الدويش وحامد المطيري وبعنوان (نتائج التنقيب في تلال مدافن الصبية)، نُشر عن طريق المجلس الثقافي الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت. تقع منطقة الصبية في شمالي دولة الكويت، ويعود اكتشاف المدافن الركامية الحجرية فيها إلى عام 1999م، وفي عام 2004م كُون فريق من جميع دول مجلس التعاون الخليجي للعمل في تلك المدافن واستناداً إلى نتائج هذا العمل ونتائج الأعمال السابقة له صنفت التلال إلى ستة أنواع:
النوع الأول: تل ذو شكل دائري ضخم، النوع الثاني: تل مخروطي قمته مقببة، النوع الثالث: تل بيضاوي عند القاعدة ومخروطي القمة، النوع الرابع: تل مستطيل الشكل، النوع الخامس: تل له شكل حلقي ويتكون من ثلاث حلقات صخرية، النوع السادس: منشآت مذيلة وهي قليلة. وكنتيجة للتنقيب في هذه المدافن عُرف أنها تحتوي على أماكن مشيدة ومخصصة لدفن الموتى. ومن الوصف الوارد في التقرير يكون المكان متسعاً في الأسفل ويضيق كلما أتجه إلى الأعلى لتأخذ فتحة مكان الدفن شكلاً ضيقاً لكي يوضع عليها الغطاء.
أما في جنوب الجزيرة العربية فتنتشر المدافن الركامية الحجرية في محافظات صعدة، وشبوة، ومنطقة رويك، وتغطي مسافات طويلة، وقدر عددها بسبعة آلاف منشأة. ومسح منها عام 1998م جبل رويك ووجد أن قمته تمتد لمسافة 13 كيلومتراً، ويبلغ عرضها 5 أمتار وقدر ما عليها من قبور ركامية بثلاثة آلاف قبر منها القبور الدائرية العالية، والقبور المذيلة، والقبور المجتمعة. وفي ضوء حفريات تمت أرخ جزء من هذه القبور بواسطة كربون 14 المشع إلى ما بين 2900 و2600 قبل الميلاد. كما عُثر في البعض منها على مواد أثرية منقولة مثل الخرز والفخار.
وقامت بعثة ألمانية بإجراء دراسة ميدانية لبعض مواقع المنشآت الحجرية في سلطنة عمان في منطقة سمد الشأن، ووجد أن أقدمها في المقابر المشيدة على شكل ركامات حجرية والتي أرخت إلى فترة تمتد من 2000 قبل الميلاد إلى 1600 قبل الميلاد، وفترة أخرى تمتد من 1600 قبل الميلاد إلى 1300 قبل الميلاد. أما في دولة البحرين فدراسة التلال الركامية بدأت منذ زمن طويل وأجريت عليها العديد من الأبحاث الميدانية ربما أن من أهمها دراسة البعثة الدنماركية التي تعود بدايتها إلى عام 1977م. وتختلف مقابر سار الجسر عن المقابر الركامية الحجرية في كونها مقابر ثلاثية تغطيها الأتربة إلى ارتفاعات قد تصل إلى خمسة أمتار، ولكنها تتماثل مع المقابر الركامية الحجرية في معثوراتها والفترات الزمنية التي تؤرخ إليها وتشييد صندوق الدفن وأمور أخرى. إن كثرة المدافن الركامية الحجرية والترابية التي تقوم على وجه الأرض وتلك التي حفرت في باطنها تدل دلالة قطعية على قوة اقتصاد الإنسان القديم في شبه الجزيرة العربية وكثرة عدده. ولذا لا بد أنه سكن في مستوطنات راقية في الإنشاء والتصميم، فأين تلك المستوطنات؟ أو هل قصد الإنسان باختيار إقامة مقابر في أماكن عالية واعتنائه بتشييدها بشكل ملحوظ وعظ الإنسان الذي يأتي بعده، ليقول له إن البقاء في الحياة الآخرة، وأن الدنيا حياة فناء.
المصدر
جريدة الرياض