جمانة كتبي
03-02-2011, 10:34 PM
الإمام أبو عمرو بن الصلاح
هو الَعَلم الذي امتد صيته في البلاد ، واتخذه الناس إماماً حافظاً ، ورفعه علمه فكان المفتي وشيخ الإسلام : أبو عمرو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الشرخاني المحدث الحجة ، الفقيه الأصولي الشافعي الباع في أصناف العلوم ، صاحب " علوم الحديث " .
مولده ونشأته :
مولده في سنة سبع وسبعين وخمس مائة ، الموافق ( 1181م ) في شرخان : قرية قريبة من شهرزور التابعة لاربل شمالي العراق ، فنُسب إليها ، لكن اشتهرت نسبته إلى شهرزور ، وكان والده عبد الرحمن يلقب صلاح الدين ، فنُسب إليه وعُرف بابن الصلاح .
نشأ ابن الصلاح في بيت علم ورئاسة ، كان أبوه صلاح الدين عالماً جليلاً ، فقيها متبحراً في فقه الإمام الشافعي ، تولى الإفتاء وعُرف بالعلم والفضل ، فكان لذلك أثره في تكوين ابنه عثمان ، فأكب على الدرس وطلب العلوم والمعارف وكان له في توجيه والده وشخصيته خير عون وتشجيع فقرأ عليه الفقه ، وحسبك به فقيهاً كان يشار إليه ، وحسبك بأبي عمرو تلميذاً نابهاً ، فما لبث أن رسخ في الفقه قدمه ، وإذا هو يدرس كتاب المهذب في فقه الشافعي وأدلته ويكرره مرتين ، وما زال يافعاً لم يطر شاربه . ثم أرسله والده إلى الموصل يطلب العلم على شيوخها ، فحصل على ال علوم بأنواعها : الفقه ، والأصول ، والتفسير ، والحديث واللغنة وغيرها .
رحلاته في طلب العلم :
ثم رحل إلى البلاد الإسلامية لطلب العلم ، كما هي سنة علماء هذه الأمة ، خصوصاً علماء الحديث الذين بلغ بهم الأمر أن يرحلوا من قطر إلى قطر آخر لسماع حديث واحد ، كما سجله لنا بالأسانيد الموثقة الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ، في تأليق خاص أفرده لهذه المنقبة العلمية والحضارية لهذه الأمة الإسلامية .
وقد جاء في كتاب ابن الصلاح ( علوم الحديث ) ما نصه :
" وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره :
روينا عن يحيى بن معين أنه قال : " أربعةٌ لا تؤنِس منهم رشداً : حارسُ الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
وروينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قيل له : " أيرحل الرجل في طلب العلو ؟ " ، فقال : " بلى والله شديداً ، لقد كان علقمة والأسود يبلغمها الحديث عن عمر رضي الله عنه فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه " .
وقال ابن الصلاح في الإسناد العالي [ نوع من أنواع علوم الحديث ، النوع (29) ص 256 في كتابه ] - :
" وطلب العلو فيه سنة أيضاً ، ولذلك استحبت الرحلة فيه على ما سبق ذكره ، قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف " انتهى .
وقد كانت رحلات ابن الصلاح واسعة شملت معظم عواصم الإسلام العلمية : رحل إلى بغداد ، ثم إلى بلاد خراسان ، ثم إلى بلاد الشام ، وذاكر العلوم وتلقى عن الشيوخ ، وعني في رحلته هذه بعلم الحديث وفنونه عناية خاصة فسمع من أئمة هذا الشأن ، حتى رسخ قدمه فيه .
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ : " وسمع – يعني بالموصل – من عبيد الله بن السمين ونصر الله بن سلامة ، ومحمود بن علي الموصلي ، وعبد المحسن بن الطوسي ، وارتحل إلى بغداد فسمع من أبي أحمد بن سكينة ، وعمر بن طبرزذ ، وبهمذان من أبي الفضل بن المعزم ، وبنيسابور من منصور والمؤيد ، وبمرو من أبي المظفر بن السمعاني ، وجماعة ، وبدمشق من جمال الدين عبد الصمد ، والشيخ موفق الدين المقدسي ، وفخر الدين بن عساكر ، وبحلب من أبي محمد بن علوان ، وبحرَّان من الحافظ عبد القادر " . اهـ .
وقد وجد أبو عمرو بن الصلاح في عصر متميز ، هو عصر السلاطين الأيوبيين الذين سجلوا بطولتهم العظمى في التاريخ في يوم حطين المشهود ، وقد تولى هؤلاء القادة حكم أقاليم الإسلام ، وقاموا فيها بالإصلاح والعدل ، ووجدوا بنظرتهم الثاقبة أنه لا يكمل نصرهم العسكري إلا برفع صرح الحضارة التي قوامها العلم ، فعنوا عناية كبيرة بالعلوم والمعارف ، وشيدوا في كل مكان المدارس والمعاهد ، الأمر الذي أتاح لهذا العصر بعد تلك المحن أن يتابع خطى حضارة الأمة الإسلامية وتقدمها في العلوم ، فظهرت نخبة من الأئمة في مختلف العلوم وسجلوا في العلم جديداً وكمالاً ، نذكر منهم هنا في الحديث النبوي خاصة أمثال : عبد الغني المقدسي المتوفي سنة (600هـ) ، وابن الأثير الجزري المتوفي سنة (606هـ) ، وابن عساكر القاسم بهاء الدين أبو محمد الدمشقي المتوفي سنة (600هـ) ، وغيرهم كثير [ انظر تراجم أعلامهم في الطبقة (17 و 18) من تذكرة الحفاظ للذهبي ج4 ص 1339 – 1444 ] .
وهكذا ألقى ابن الصلاح عصا الترحال في الشام ومكث في بلادها ، ولعله كان مع والده حينئذ ، حيث نصوا على أن والده انتقل إلى حلب وتولى التدريس بالمدرسة الأسدية بحلب ( نسبة إلى أسد الدين شيركوه ) وتوفي بحلب سنة (618هـ) .
وقد أقام أبو عمرو عثمان في دمشق ، وهناك بزغ نجمه وظهر للعيان فضله ، فأكب على نشر العلم ، وكتابة التصانيف النافعة ، في مختلف العلوم ، وألقت إليه الرئاسة العلمية مقاليدها وأسلست له القياد ، فكان إماماً في الفقه والأصول وصار مفتي المسلمين ، وشيخ الإسلام ، كما تفوق في التفسير وسائر العلوم ، وكان في الحديث واحد زمانه ، وفذ أقرانه ، فأخذ عنه المحدثون والحفاظ ورحلوا إليه ، حتى أصبح لإحاطته واكتماله في الحديث وفنونه " ... إذا أطلق الشيخ في علماء الحديث فالمراد به هو [ قال علي القاري في شرح الشرح ص3 : " الشيخ هو الكامل في فنه ولو كان شاباً " ] ، وإلى ذلك أشار العراقي صاحب الألفيه بقوله فيها :
وكلما أطلقت لفظ " الشيخ " ما :: ~ :: أريد إلا " ابن الصلاح " مبهماً "
وهكذا اكتملت له الإمامة في العلوم ، وتولى رئاسة تدريسها ، لاسيما الحديث وعلومه .
قال ابن خلكان : " وتولى التدريس بالمدرسة الناصرية [ وهي تقع بمدينة القدس ] ، المنسوبة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله ، وأقام بها مدة ، واشتغل الناس عليه وانتفعوا به ، ثم انتقل إلى دمشق وتولى التدريس بالمدرسة الرواحية [ تقع شرق مسجد ابن عروة قرب الجامع الأموي ، لكنها الآن صارت داراً ] التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله بن عبد الواحد بن رواحة الحموي ، وهو الذي أنشأ المدرسة الرواحية بحلب أيضاً .
ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوم رحمه الله تعالى دار الحديث [ وتقع في أوائل سوق العصرونية من الجانب الغربي ] بدمشق فوض تدريسها إليه ، واشتغل الناس عليه بالحديث ، ثم تولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب ، - وهي شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب المقدم ذكره – التي هي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري [ وهي المدرسة العادلية الصغرى في الجانب الشمالي من سوق العصرونية ] ، وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق ، وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا بعذر ضروري لابد منه " .
وقال الذهبي في العبر : " ودرس بالرواحية وولي مشيخة دار الحديث ثلاث عشرة سنة " . اهـ .
وقد آتاه الله تعالى القبول في الناس ووضع الانتفاع به فتخرج به علماء أئمة في العلوم عامة ، والفقه والحديث خاصة .
قال الذهبي : " تفقه به الأئمة شمس الدين عبد الرحمن بن نوح ، وكمال الدين سلار ، وكمال الدين إسحاق ، وتقي الدين بن رزين ، والقاضي وغيرهم " .
وقال : " حدث عنه فخر الدين عمر الكرجي ، ومجد الدين بن المهتار ، والشيخ تاج الدين عبد الرحمن ، والشيخ زين الدين الفارقي ، والقاضي شهاب الدين الجوري والخطيب شرف الدين الفراوي ، والشهاب محمد بن شرف ، والصدر محمد بن حسن الأرموي ، والعماد ابن البالسي ، والشرف محمد بن الخطيب الآبادي ، وناصر الدين محمد بن المهتار ، والقاضي أبو العباس أحمد بن علي الجيلي ، والشهاب أحمد بن العفيف وآخرون ... " .
ابن الصلاح في حياته العامة :
نشأ أبو عمرو بن الصلاح على التقى والديانة ، وبهما أخذ نفسه ، ولقد عُرف رحمه الله بالجد في طلب العلم ، والباعة في اختيار الأنفع الأقدم منه ، وبتحقيق ما يدرس وتدقيقه ، حتى صار يضرب به المثل في ذلك كله .
وكان ورعاً زاهداً في الدنيا وحطامها ، ثم هو كثير العناية بمظهره وأناقة ملبسه ، تجملا ً وتكريماً لمكان العلم الذي يحمله . وكان رضي الله عنه سالكاً مسلك الصوفية أهل العلم والعمل ، فكان متعبداً مجاهداً نفسه على الإخلاص والتجرد عن القصد لغير ذات الله تعالى ، فأحب علم الحديث وعُني به .
ومن قوله في كتابه ( علوم الحديث ) – ص 236 - : " علم مالحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، ... ، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا ، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث ... فليقدم تصحيح النية وإخلاصها " .
ويذكر عن شيوخه أنهم يقولون : " دليل طول عمر الرجل اشتغاله بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويصدقه التجربة ؛ فإن أهل الحديث إذا تتبعت أعمارهم تجدها في غاية الطول " – كشف الظنون : 1/317 - .
لكنه لم يكن زهده عن ضعف ، كما يتوهم – خطأ – كثير ممن لا يفهم حقيقة الزهد ، بل كان قوة واستعلاءً على الضرورات المادية أن توهن من عزمه ، فكان قائماً بأمر الله تعالى ، أمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، فكساه الله ثوب المهابة والوقار ، فعظمه الجميع ، وأجله السلطان وأولوا الأمر .
ولقد تخلى عن أطماع الدنيا ليتفرغ للعلم ونشره ، فجد وبذل غاية وسعه في الإفادة ، والإفتاء ، والتحديث ، ووسع صدره لطلاب العلم فكان أحدهم يرحل إليه يقيم عنده ويلازمه الشهور العديدة يأخذ عنه العلم ، والعمل ، والورع ، وأكب على التصنيف فحرر ما صنفه واجتهد فيه باجتهاده الخاص ، فعم نفعه ، وتخرج به الأئمة في العلم .
ثناء العلماء على ابن الصلاح :
ولقد أثنى عليه العلماء ، وأشاد به الفضلاء :
يقول تلميذه ابن خلكان : " كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث ، والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ، ونقل اللغة ، وكانت له مشاركة في فنون عديدة ، وكانت فتاويه مسددة وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم " .
قال : " وكان من العلم والدين على قدم عظيم ، وقدمت عليه في أوائل شوال سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة ونصف " .
ويقول الإمام أبو حفص بن الحاجب : " إمام ورع ، وافر العقل حسن السمت ، متبحر في الأصول والفروع بارع في الطلب حتى صار يضرب به المثل ، واجتهد في نفسه في الطاعة والعبادة " .
وقال الإمام الذهبي : " الإمام المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو ... " .
قال : " وكان وافر الجلالة ، حسن البزة كثير الهيبة ، موقراً عند السلطان والأمراء " .
" ... صنف وأفتى وتخرج به الأصحاب وكان من أعلام الدين " .
وقال السخاوي في مطلع كتابه ( فتح المغيث ) : " العلامة الفقيه حافظ الوقت مفتي الفرق شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن الإمام البارع صلاح الدين .. كان إماماً بارعاً حجة ، متبحراً في العلوم الدينية ، بصيراً بالمذهب ووجوهه ، خبيراً بأصوله ، عارفاً بالمذاهب ، جيد المادة من اللغة والعربية ، حافظاً للحديث متقناً فيه حسن الضبط ، كبير القدر ، وافر الحرمة ، عديم النظير في زمانه ، مع الدين والعبادة والنسك والصيانة ، والورع والتقوى ، انتفع به خلق وعولوا على تصانيفه " .
وفاتــه :
وهكذا ظل مدة حياته إلى أن انتقل إلى ربه راضياً مرضياً ، شنة 643هـ (1245م ) .
قال ابن خلكان : " ولم يزل أمره جارياً على السداد والصلاح والاجتهاد في الاشتغال والنفع إلى أن توفي يوم الأربعاء وقت الصبح وصُلي عليه بعد الظهر ، وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق ، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر رحمه الله تعالى ورضي عنه " .
مؤلفاته :
ترك لنا أبو عمرو بن الصلاح تصانيف كثيرة في أنواع من العلوم ، أبدى فيها جميعاً تحقيقات جيدة ، وفوائد بديعة ، فعول عليها العلماء من بعده واعتمدوها ، ومن أهمها مما وقفنا على ذكره :
1- طبقات الفقهاء الشافعية .
2- الأمالي .
3- فوائد الرحلة : كتاب ممتع جمع فوائد في علوم متنوعة قيدها في رحلته إلى خراسان .
4- أدب المفتي والمستفتي .
5- صلة الناسك في صفة المناسك : جمع فيه جملة من المسائل النافعة التي يحتاج إليها الناس في مناسك حجهم .
6- شرح الوسيط في فقه الشافعية : أبدى فيه انتقادات علمية واجتهادات دقيقة .
7- الفتاوى : جمعه بعض أصحابه ، له فيه اجتهادات تدل على إمامته في الفقه وما يتصل به من علوم التفسير والحديث ، طبع في مجلد .
8- شرح صحيح مسلم : ذكره السيوطي في التدريب * وقد عثرنا على قطعة منه صورناها ، وهي من أول الكتاب إلى أثناء كتاب الإيمان .
9- المؤتلف والمختلف في أسماء الرجال : مخطوط في دار الكتب الظاهرية .
10- علوم الحديث : أحسن كتب هذا الفن وفاتحة عهد جديد في تدوين علوم الحديث .
من مقدمة كتاب ( علوم الحديث – لابن الصلاح )
تحقيق وشرح : نور الدين عِـتِـر
طباعة دار الفكر بدمشق ، ودار الفكر المعاصر ببيروت .
هو الَعَلم الذي امتد صيته في البلاد ، واتخذه الناس إماماً حافظاً ، ورفعه علمه فكان المفتي وشيخ الإسلام : أبو عمرو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الشرخاني المحدث الحجة ، الفقيه الأصولي الشافعي الباع في أصناف العلوم ، صاحب " علوم الحديث " .
مولده ونشأته :
مولده في سنة سبع وسبعين وخمس مائة ، الموافق ( 1181م ) في شرخان : قرية قريبة من شهرزور التابعة لاربل شمالي العراق ، فنُسب إليها ، لكن اشتهرت نسبته إلى شهرزور ، وكان والده عبد الرحمن يلقب صلاح الدين ، فنُسب إليه وعُرف بابن الصلاح .
نشأ ابن الصلاح في بيت علم ورئاسة ، كان أبوه صلاح الدين عالماً جليلاً ، فقيها متبحراً في فقه الإمام الشافعي ، تولى الإفتاء وعُرف بالعلم والفضل ، فكان لذلك أثره في تكوين ابنه عثمان ، فأكب على الدرس وطلب العلوم والمعارف وكان له في توجيه والده وشخصيته خير عون وتشجيع فقرأ عليه الفقه ، وحسبك به فقيهاً كان يشار إليه ، وحسبك بأبي عمرو تلميذاً نابهاً ، فما لبث أن رسخ في الفقه قدمه ، وإذا هو يدرس كتاب المهذب في فقه الشافعي وأدلته ويكرره مرتين ، وما زال يافعاً لم يطر شاربه . ثم أرسله والده إلى الموصل يطلب العلم على شيوخها ، فحصل على ال علوم بأنواعها : الفقه ، والأصول ، والتفسير ، والحديث واللغنة وغيرها .
رحلاته في طلب العلم :
ثم رحل إلى البلاد الإسلامية لطلب العلم ، كما هي سنة علماء هذه الأمة ، خصوصاً علماء الحديث الذين بلغ بهم الأمر أن يرحلوا من قطر إلى قطر آخر لسماع حديث واحد ، كما سجله لنا بالأسانيد الموثقة الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ، في تأليق خاص أفرده لهذه المنقبة العلمية والحضارية لهذه الأمة الإسلامية .
وقد جاء في كتاب ابن الصلاح ( علوم الحديث ) ما نصه :
" وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره :
روينا عن يحيى بن معين أنه قال : " أربعةٌ لا تؤنِس منهم رشداً : حارسُ الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
وروينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قيل له : " أيرحل الرجل في طلب العلو ؟ " ، فقال : " بلى والله شديداً ، لقد كان علقمة والأسود يبلغمها الحديث عن عمر رضي الله عنه فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه " .
وقال ابن الصلاح في الإسناد العالي [ نوع من أنواع علوم الحديث ، النوع (29) ص 256 في كتابه ] - :
" وطلب العلو فيه سنة أيضاً ، ولذلك استحبت الرحلة فيه على ما سبق ذكره ، قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف " انتهى .
وقد كانت رحلات ابن الصلاح واسعة شملت معظم عواصم الإسلام العلمية : رحل إلى بغداد ، ثم إلى بلاد خراسان ، ثم إلى بلاد الشام ، وذاكر العلوم وتلقى عن الشيوخ ، وعني في رحلته هذه بعلم الحديث وفنونه عناية خاصة فسمع من أئمة هذا الشأن ، حتى رسخ قدمه فيه .
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ : " وسمع – يعني بالموصل – من عبيد الله بن السمين ونصر الله بن سلامة ، ومحمود بن علي الموصلي ، وعبد المحسن بن الطوسي ، وارتحل إلى بغداد فسمع من أبي أحمد بن سكينة ، وعمر بن طبرزذ ، وبهمذان من أبي الفضل بن المعزم ، وبنيسابور من منصور والمؤيد ، وبمرو من أبي المظفر بن السمعاني ، وجماعة ، وبدمشق من جمال الدين عبد الصمد ، والشيخ موفق الدين المقدسي ، وفخر الدين بن عساكر ، وبحلب من أبي محمد بن علوان ، وبحرَّان من الحافظ عبد القادر " . اهـ .
وقد وجد أبو عمرو بن الصلاح في عصر متميز ، هو عصر السلاطين الأيوبيين الذين سجلوا بطولتهم العظمى في التاريخ في يوم حطين المشهود ، وقد تولى هؤلاء القادة حكم أقاليم الإسلام ، وقاموا فيها بالإصلاح والعدل ، ووجدوا بنظرتهم الثاقبة أنه لا يكمل نصرهم العسكري إلا برفع صرح الحضارة التي قوامها العلم ، فعنوا عناية كبيرة بالعلوم والمعارف ، وشيدوا في كل مكان المدارس والمعاهد ، الأمر الذي أتاح لهذا العصر بعد تلك المحن أن يتابع خطى حضارة الأمة الإسلامية وتقدمها في العلوم ، فظهرت نخبة من الأئمة في مختلف العلوم وسجلوا في العلم جديداً وكمالاً ، نذكر منهم هنا في الحديث النبوي خاصة أمثال : عبد الغني المقدسي المتوفي سنة (600هـ) ، وابن الأثير الجزري المتوفي سنة (606هـ) ، وابن عساكر القاسم بهاء الدين أبو محمد الدمشقي المتوفي سنة (600هـ) ، وغيرهم كثير [ انظر تراجم أعلامهم في الطبقة (17 و 18) من تذكرة الحفاظ للذهبي ج4 ص 1339 – 1444 ] .
وهكذا ألقى ابن الصلاح عصا الترحال في الشام ومكث في بلادها ، ولعله كان مع والده حينئذ ، حيث نصوا على أن والده انتقل إلى حلب وتولى التدريس بالمدرسة الأسدية بحلب ( نسبة إلى أسد الدين شيركوه ) وتوفي بحلب سنة (618هـ) .
وقد أقام أبو عمرو عثمان في دمشق ، وهناك بزغ نجمه وظهر للعيان فضله ، فأكب على نشر العلم ، وكتابة التصانيف النافعة ، في مختلف العلوم ، وألقت إليه الرئاسة العلمية مقاليدها وأسلست له القياد ، فكان إماماً في الفقه والأصول وصار مفتي المسلمين ، وشيخ الإسلام ، كما تفوق في التفسير وسائر العلوم ، وكان في الحديث واحد زمانه ، وفذ أقرانه ، فأخذ عنه المحدثون والحفاظ ورحلوا إليه ، حتى أصبح لإحاطته واكتماله في الحديث وفنونه " ... إذا أطلق الشيخ في علماء الحديث فالمراد به هو [ قال علي القاري في شرح الشرح ص3 : " الشيخ هو الكامل في فنه ولو كان شاباً " ] ، وإلى ذلك أشار العراقي صاحب الألفيه بقوله فيها :
وكلما أطلقت لفظ " الشيخ " ما :: ~ :: أريد إلا " ابن الصلاح " مبهماً "
وهكذا اكتملت له الإمامة في العلوم ، وتولى رئاسة تدريسها ، لاسيما الحديث وعلومه .
قال ابن خلكان : " وتولى التدريس بالمدرسة الناصرية [ وهي تقع بمدينة القدس ] ، المنسوبة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله ، وأقام بها مدة ، واشتغل الناس عليه وانتفعوا به ، ثم انتقل إلى دمشق وتولى التدريس بالمدرسة الرواحية [ تقع شرق مسجد ابن عروة قرب الجامع الأموي ، لكنها الآن صارت داراً ] التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله بن عبد الواحد بن رواحة الحموي ، وهو الذي أنشأ المدرسة الرواحية بحلب أيضاً .
ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوم رحمه الله تعالى دار الحديث [ وتقع في أوائل سوق العصرونية من الجانب الغربي ] بدمشق فوض تدريسها إليه ، واشتغل الناس عليه بالحديث ، ثم تولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب ، - وهي شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب المقدم ذكره – التي هي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري [ وهي المدرسة العادلية الصغرى في الجانب الشمالي من سوق العصرونية ] ، وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق ، وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا بعذر ضروري لابد منه " .
وقال الذهبي في العبر : " ودرس بالرواحية وولي مشيخة دار الحديث ثلاث عشرة سنة " . اهـ .
وقد آتاه الله تعالى القبول في الناس ووضع الانتفاع به فتخرج به علماء أئمة في العلوم عامة ، والفقه والحديث خاصة .
قال الذهبي : " تفقه به الأئمة شمس الدين عبد الرحمن بن نوح ، وكمال الدين سلار ، وكمال الدين إسحاق ، وتقي الدين بن رزين ، والقاضي وغيرهم " .
وقال : " حدث عنه فخر الدين عمر الكرجي ، ومجد الدين بن المهتار ، والشيخ تاج الدين عبد الرحمن ، والشيخ زين الدين الفارقي ، والقاضي شهاب الدين الجوري والخطيب شرف الدين الفراوي ، والشهاب محمد بن شرف ، والصدر محمد بن حسن الأرموي ، والعماد ابن البالسي ، والشرف محمد بن الخطيب الآبادي ، وناصر الدين محمد بن المهتار ، والقاضي أبو العباس أحمد بن علي الجيلي ، والشهاب أحمد بن العفيف وآخرون ... " .
ابن الصلاح في حياته العامة :
نشأ أبو عمرو بن الصلاح على التقى والديانة ، وبهما أخذ نفسه ، ولقد عُرف رحمه الله بالجد في طلب العلم ، والباعة في اختيار الأنفع الأقدم منه ، وبتحقيق ما يدرس وتدقيقه ، حتى صار يضرب به المثل في ذلك كله .
وكان ورعاً زاهداً في الدنيا وحطامها ، ثم هو كثير العناية بمظهره وأناقة ملبسه ، تجملا ً وتكريماً لمكان العلم الذي يحمله . وكان رضي الله عنه سالكاً مسلك الصوفية أهل العلم والعمل ، فكان متعبداً مجاهداً نفسه على الإخلاص والتجرد عن القصد لغير ذات الله تعالى ، فأحب علم الحديث وعُني به .
ومن قوله في كتابه ( علوم الحديث ) – ص 236 - : " علم مالحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، ... ، وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا ، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث ... فليقدم تصحيح النية وإخلاصها " .
ويذكر عن شيوخه أنهم يقولون : " دليل طول عمر الرجل اشتغاله بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويصدقه التجربة ؛ فإن أهل الحديث إذا تتبعت أعمارهم تجدها في غاية الطول " – كشف الظنون : 1/317 - .
لكنه لم يكن زهده عن ضعف ، كما يتوهم – خطأ – كثير ممن لا يفهم حقيقة الزهد ، بل كان قوة واستعلاءً على الضرورات المادية أن توهن من عزمه ، فكان قائماً بأمر الله تعالى ، أمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، فكساه الله ثوب المهابة والوقار ، فعظمه الجميع ، وأجله السلطان وأولوا الأمر .
ولقد تخلى عن أطماع الدنيا ليتفرغ للعلم ونشره ، فجد وبذل غاية وسعه في الإفادة ، والإفتاء ، والتحديث ، ووسع صدره لطلاب العلم فكان أحدهم يرحل إليه يقيم عنده ويلازمه الشهور العديدة يأخذ عنه العلم ، والعمل ، والورع ، وأكب على التصنيف فحرر ما صنفه واجتهد فيه باجتهاده الخاص ، فعم نفعه ، وتخرج به الأئمة في العلم .
ثناء العلماء على ابن الصلاح :
ولقد أثنى عليه العلماء ، وأشاد به الفضلاء :
يقول تلميذه ابن خلكان : " كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث ، والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ، ونقل اللغة ، وكانت له مشاركة في فنون عديدة ، وكانت فتاويه مسددة وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم " .
قال : " وكان من العلم والدين على قدم عظيم ، وقدمت عليه في أوائل شوال سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة ونصف " .
ويقول الإمام أبو حفص بن الحاجب : " إمام ورع ، وافر العقل حسن السمت ، متبحر في الأصول والفروع بارع في الطلب حتى صار يضرب به المثل ، واجتهد في نفسه في الطاعة والعبادة " .
وقال الإمام الذهبي : " الإمام المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو ... " .
قال : " وكان وافر الجلالة ، حسن البزة كثير الهيبة ، موقراً عند السلطان والأمراء " .
" ... صنف وأفتى وتخرج به الأصحاب وكان من أعلام الدين " .
وقال السخاوي في مطلع كتابه ( فتح المغيث ) : " العلامة الفقيه حافظ الوقت مفتي الفرق شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن الإمام البارع صلاح الدين .. كان إماماً بارعاً حجة ، متبحراً في العلوم الدينية ، بصيراً بالمذهب ووجوهه ، خبيراً بأصوله ، عارفاً بالمذاهب ، جيد المادة من اللغة والعربية ، حافظاً للحديث متقناً فيه حسن الضبط ، كبير القدر ، وافر الحرمة ، عديم النظير في زمانه ، مع الدين والعبادة والنسك والصيانة ، والورع والتقوى ، انتفع به خلق وعولوا على تصانيفه " .
وفاتــه :
وهكذا ظل مدة حياته إلى أن انتقل إلى ربه راضياً مرضياً ، شنة 643هـ (1245م ) .
قال ابن خلكان : " ولم يزل أمره جارياً على السداد والصلاح والاجتهاد في الاشتغال والنفع إلى أن توفي يوم الأربعاء وقت الصبح وصُلي عليه بعد الظهر ، وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق ، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر رحمه الله تعالى ورضي عنه " .
مؤلفاته :
ترك لنا أبو عمرو بن الصلاح تصانيف كثيرة في أنواع من العلوم ، أبدى فيها جميعاً تحقيقات جيدة ، وفوائد بديعة ، فعول عليها العلماء من بعده واعتمدوها ، ومن أهمها مما وقفنا على ذكره :
1- طبقات الفقهاء الشافعية .
2- الأمالي .
3- فوائد الرحلة : كتاب ممتع جمع فوائد في علوم متنوعة قيدها في رحلته إلى خراسان .
4- أدب المفتي والمستفتي .
5- صلة الناسك في صفة المناسك : جمع فيه جملة من المسائل النافعة التي يحتاج إليها الناس في مناسك حجهم .
6- شرح الوسيط في فقه الشافعية : أبدى فيه انتقادات علمية واجتهادات دقيقة .
7- الفتاوى : جمعه بعض أصحابه ، له فيه اجتهادات تدل على إمامته في الفقه وما يتصل به من علوم التفسير والحديث ، طبع في مجلد .
8- شرح صحيح مسلم : ذكره السيوطي في التدريب * وقد عثرنا على قطعة منه صورناها ، وهي من أول الكتاب إلى أثناء كتاب الإيمان .
9- المؤتلف والمختلف في أسماء الرجال : مخطوط في دار الكتب الظاهرية .
10- علوم الحديث : أحسن كتب هذا الفن وفاتحة عهد جديد في تدوين علوم الحديث .
من مقدمة كتاب ( علوم الحديث – لابن الصلاح )
تحقيق وشرح : نور الدين عِـتِـر
طباعة دار الفكر بدمشق ، ودار الفكر المعاصر ببيروت .