جمانة كتبي
02-18-2011, 09:07 PM
القاضي محي الدين ابن الزكي الدمشقي
المولد والنسب :
جاءت ترجمة القاضي محي الدين ابن الزكي في "الوافي في الوفيات" كما يلي: هو القاضي محيي الدين ابن الزكي، محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي، قاضي قضاة الشام، محيي الدين أبو المعالي، ابن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن، ابن قاضي القضاة المنتخب أبي المعالي، ابن قاضي القضاة الزكي أبي المفضل القرشي الدمشقي الشافعي.
وجاء في (البداية والنهاية) ما نصه: القاضي ابن الزكي، محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه.
ولد -رحمه الله- سنة خمسين وخمس مائة، وهو من بيت القضاء والحشمة والأصالة والعلم، وكان حسن اللفظ والخط، وقد قرأ المذهب على جماعة، وسمع من والده.
وكان مما زاده شرفا أنه شهد فتح القدس مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان له يومئذ ثلاث وثلاثون سنة، واسمه على قبة النسر في التثمين بخط كوفي أبيض.
أخلاقه وملامح شخصيته :
كان -رحمه الله- فطنا ذكيا صاحب علم وفراسة، وفي ذات الوقت يتصف بالأمانة العلمية، ومما جاء في ذلك أنه لما فتح السلطان مدينة حلب سنة تسع وسبعين وخمس مائة أنشده القاضي محيي الدين بن الزكي قصيدة بائيةً أجاد فيها وجاء فيها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر... مبشرٌ بفتوح القدس في رجب
فكان فتح القدس كما قال لثلاث بقين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، عندئذ قيل لمحيي الدين: من أين لك ذلك؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: {ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1-4].
فابن الزكي -رحمه الله- وجد النجابة في تفسير ابن برجان، فتلقفها بالقبول والاستحسان، بل وصاغها شعرا، وكان ذلك قبل تحرير الأقصى بأربع سنين، ومما يُعد درة على جبينه أنه نسب مصدر هذا الإلهام إلى أهله وهو تفسير ابن برجان ولم ينسبه إلى نفسه، وهكذا كانت أخلاق العلماء فضلا عن القضاة.
ابن الزكي قاضيا :
اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون وناب عنه الحكم وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فُتح -كما سيأتي- ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضا، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا.
ويذكر صاحب (الوافي بالوفيات) أن ابن الزكي كان قد تظاهر بترك النيابة عن القاضي ابن أبي عصرون فأرسل إليه السلطان صلاح الدين مجد الدين ابن النحاس والد العماد عبد الله الراوي وأمره أن يضرب علي علامته في مجلس حكمه، فلزم بيته حياء واستناب ابن أبي عصرون الخطيب ضياع الدين الدولعي، وأرسل إليه الخليفة بالنيابة مع البدر يونس الفارقي فرده وشتمه، فأرسل إلى جمال الدين ابن الحرستاني فناب عنه، ثم توفي ابن أبي عصرون وولي محيي الدين القضاء وعظمت رتبته عند صلاح الدين، وسار إلى مصر رسولاً من الملك العادل إلى العزيزن ومكاتبات القاضي الفاضل إليه مجلدة كبيرة.
ومما جاء في أقضيته أنه جرت له قضية مع الإسماعيلية (فرقة باطنية ظاهرها التشيع لآل البيت وحقيقتها الإلحاد والشيوعية والإباحية وهدم الأخلاق) بسبب قتل شخص منهم؛ فلذلك فتح له باب سر إلى الجامع من داره التي بباب البريد لأجل صلاة الجمعة.
آثار ابن الزكي العلمية :
ذكر ابن كثير أن ابن الزكي كان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة تجاه تربة صلاح الدين، وذكر أيضا أنه كان ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، وكان يمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية، وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا.
إلا أن أهم ما أُثر عنه في حياته العلمية والقضائية -حيث لم نعثر له على ذكرٍ لمؤلفات أو شيوخ أو تلاميذ- ما يمكن أن نسميه "خُطبة التحرير"، وهي خطبة الجمعة، تلك الخطبة التي أعيد بها افتتاح الأقصى من الفرنجة على يد صلاح الدين الأيويى رحمه الله، وكانت أول خطبة في القدس بعد التحرير.
تلك التي لم يكن مستعدا لها، بل أخرج إليه وقد أذن المؤذنون على السدة رسالة السلطان أن يخطب ويصلي بالناس، وهو مقام صعب؛ حيث اجتمع من أهل الاسلام ما لا يقع لهم إحصاء، وامتلئت ساحات المسجد وصحونه بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات ووجلت القلوب، وأخذ الناس لذلك الموقف أُهبته، حتى إذا حان وقت الخطبة قام ابن الزكي فخطب على المنبر في هذا الحشد العظيم، وقد ذكرها ابن خلكان في تاريخه، وها هو نصها:
.. قال بعد أن استهلها بقولة تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ثم تلا الآيات التي في بدايتها الحمد ثم قال:
"أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة -وهو الشيء المفقود-، من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبًا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيه رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد -عليه الصلاة والسلام- وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد [الأقصى] الذي صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرّمه برسالته وشرّفه بنبوّته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]. كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدًا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] إلى آخر الآيات من المائدة.
وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تُشدّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مُجارٍ، ولا يباريكم في شرفها مُبارٍ، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والواقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العُمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبّل منكم ما تقرّبتم به إليه من مُهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء.
فاقدُروا -رحمكم الله- هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرّ به عينًا الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء، أكثر من التهاني لأهل الغبراء.
أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء:1].
أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟
أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويَقُرب؟
أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟
فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه أممًا كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته (كان) و(قد) عن (سوف) و(حتى)، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودًا لأهويتكم جنده، وشكر لكم الملائكة المنزلون، على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث؛ فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات.
فاحفظوا -رحمكم الله- هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي مَن تمسك بها سلم، ومَن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى، ومواقعة الردى، ورجوع القهقري، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا -عباد الله- أنفسَكم في رضاه إذ جعلكم من خير عباده، وإياكم أن يستزلَّكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم.
فاحذروا عباد الله -بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين- أن تقترفوا كبيرًا من مناهيه، وأن تأتوا عظيمًا من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهادَ الجهادَ فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حَسْم الداء، وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام: يا للثارات الإسلامية، والملة المحمدية، الله أكبر، فَتَحَ الله ونَصَر، غلبَ اللهُ وقَهَر، أذلَ الله مَن كَفَر.
واعلموا -رحمكم الله- أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحُوزُوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيِّروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65].
أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيّدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160].
إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تحل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلاَّم، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:294]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ أول الحشر، ثم قال: آمركم وإياي بما أمر الله به مِن حُسن الطاعة فأطيعوه، وأنهاكم وإياي عما نهاكم عنه من قُبح المعصية فلا تعصوه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.
ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مختصرة، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر، ثم قال: اللهم وأدم سلطان عبدِك الخاضعِ لهيبتك، الشاكرِ لنعتمك، المعترفِ بموهبتك، سيفِك القاطع، وشهابِك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذابِّ عن حرمك الممانع، السيدِ الأجل، الملكِ الناصر، جامعِ كلمة الإيمان، وقامعِ عبدة الصلبان، صلاحِ الدنيا والدين، سلطانِ الإسلام والمسلمين، مطهرِ البيتِ المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين.
اللهم عُمَّ بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظُنَّت الظنون، وابتُلي المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، ومَلِّكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها.
اللهم اشكر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجّار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم،
اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مرِّ الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار اليقين، وأجب دعاءه في قوله {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]. ثم دعا بما جرت به العادة".
ولقد تعمدت ذكر هذه الخطبة كاملة لما فيها من منافع جمة، كان في مقدمتها ظهور شخصية القاضي ابن الزكي -رحمه الله- القاضي والعالم والمؤرخ والأديب..، فضلا عن نيله شرف إلقاء "خطبة التحرير" -بأمر من صلاح الدين الأيوبي- من بين أقرانه الذين اشرأبت نفوسهم إلى ذلك الشرف السامي، وكان -بحق- أهلا لها.
وفـاتــه :
في دمشق في سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وخمس مائة توفي -رحمه الله- عن ثمان وأربعين عاما، ودفن بتربته بسفح قايسون.
وقد جاء في (البداية والنهاية) أنه في آخر حياته خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي، وأنه يقال: إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال ومات وكذلك الخطيب الدولعي، وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى، فماتا في هذه السنة فكانا عبرة لغيرهما، ولا نجد تعليقا على هذه الرواية.
المراجع :
1- الوافي في الوفيات، ج1، ص508، 509.
2- البداية والنهاية، ج13، ص32.
* المصدر : موقع قصة الإسلام.
المولد والنسب :
جاءت ترجمة القاضي محي الدين ابن الزكي في "الوافي في الوفيات" كما يلي: هو القاضي محيي الدين ابن الزكي، محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي، قاضي قضاة الشام، محيي الدين أبو المعالي، ابن قاضي القضاة زكي الدين أبي الحسن، ابن قاضي القضاة المنتخب أبي المعالي، ابن قاضي القضاة الزكي أبي المفضل القرشي الدمشقي الشافعي.
وجاء في (البداية والنهاية) ما نصه: القاضي ابن الزكي، محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي، وهو أول من ولي الحكم بدمشق منهم، وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه.
ولد -رحمه الله- سنة خمسين وخمس مائة، وهو من بيت القضاء والحشمة والأصالة والعلم، وكان حسن اللفظ والخط، وقد قرأ المذهب على جماعة، وسمع من والده.
وكان مما زاده شرفا أنه شهد فتح القدس مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان له يومئذ ثلاث وثلاثون سنة، واسمه على قبة النسر في التثمين بخط كوفي أبيض.
أخلاقه وملامح شخصيته :
كان -رحمه الله- فطنا ذكيا صاحب علم وفراسة، وفي ذات الوقت يتصف بالأمانة العلمية، ومما جاء في ذلك أنه لما فتح السلطان مدينة حلب سنة تسع وسبعين وخمس مائة أنشده القاضي محيي الدين بن الزكي قصيدة بائيةً أجاد فيها وجاء فيها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر... مبشرٌ بفتوح القدس في رجب
فكان فتح القدس كما قال لثلاث بقين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، عندئذ قيل لمحيي الدين: من أين لك ذلك؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: {ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1-4].
فابن الزكي -رحمه الله- وجد النجابة في تفسير ابن برجان، فتلقفها بالقبول والاستحسان، بل وصاغها شعرا، وكان ذلك قبل تحرير الأقصى بأربع سنين، ومما يُعد درة على جبينه أنه نسب مصدر هذا الإلهام إلى أهله وهو تفسير ابن برجان ولم ينسبه إلى نفسه، وهكذا كانت أخلاق العلماء فضلا عن القضاة.
ابن الزكي قاضيا :
اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون وناب عنه الحكم وهو أول من ترك النيابة، وهو أول من خطب بالقدس لما فُتح -كما سيأتي- ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضا، وكان ناظر أوقاف الجامع، وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا.
ويذكر صاحب (الوافي بالوفيات) أن ابن الزكي كان قد تظاهر بترك النيابة عن القاضي ابن أبي عصرون فأرسل إليه السلطان صلاح الدين مجد الدين ابن النحاس والد العماد عبد الله الراوي وأمره أن يضرب علي علامته في مجلس حكمه، فلزم بيته حياء واستناب ابن أبي عصرون الخطيب ضياع الدين الدولعي، وأرسل إليه الخليفة بالنيابة مع البدر يونس الفارقي فرده وشتمه، فأرسل إلى جمال الدين ابن الحرستاني فناب عنه، ثم توفي ابن أبي عصرون وولي محيي الدين القضاء وعظمت رتبته عند صلاح الدين، وسار إلى مصر رسولاً من الملك العادل إلى العزيزن ومكاتبات القاضي الفاضل إليه مجلدة كبيرة.
ومما جاء في أقضيته أنه جرت له قضية مع الإسماعيلية (فرقة باطنية ظاهرها التشيع لآل البيت وحقيقتها الإلحاد والشيوعية والإباحية وهدم الأخلاق) بسبب قتل شخص منهم؛ فلذلك فتح له باب سر إلى الجامع من داره التي بباب البريد لأجل صلاة الجمعة.
آثار ابن الزكي العلمية :
ذكر ابن كثير أن ابن الزكي كان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة تجاه تربة صلاح الدين، وذكر أيضا أنه كان ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام، وكان يمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية، وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح للغزالي، ويحفظها أولاده أيضا.
إلا أن أهم ما أُثر عنه في حياته العلمية والقضائية -حيث لم نعثر له على ذكرٍ لمؤلفات أو شيوخ أو تلاميذ- ما يمكن أن نسميه "خُطبة التحرير"، وهي خطبة الجمعة، تلك الخطبة التي أعيد بها افتتاح الأقصى من الفرنجة على يد صلاح الدين الأيويى رحمه الله، وكانت أول خطبة في القدس بعد التحرير.
تلك التي لم يكن مستعدا لها، بل أخرج إليه وقد أذن المؤذنون على السدة رسالة السلطان أن يخطب ويصلي بالناس، وهو مقام صعب؛ حيث اجتمع من أهل الاسلام ما لا يقع لهم إحصاء، وامتلئت ساحات المسجد وصحونه بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات ووجلت القلوب، وأخذ الناس لذلك الموقف أُهبته، حتى إذا حان وقت الخطبة قام ابن الزكي فخطب على المنبر في هذا الحشد العظيم، وقد ذكرها ابن خلكان في تاريخه، وها هو نصها:
.. قال بعد أن استهلها بقولة تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ثم تلا الآيات التي في بدايتها الحمد ثم قال:
"أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة -وهو الشيء المفقود-، من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبًا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيه رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد -عليه الصلاة والسلام- وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد [الأقصى] الذي صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرّمه برسالته وشرّفه بنبوّته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]. كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدًا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] إلى آخر الآيات من المائدة.
وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تُشدّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مُجارٍ، ولا يباريكم في شرفها مُبارٍ، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والواقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العُمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبّل منكم ما تقرّبتم به إليه من مُهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء.
فاقدُروا -رحمكم الله- هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرّ به عينًا الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء، أكثر من التهاني لأهل الغبراء.
أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء:1].
أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟
أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويَقُرب؟
أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟
فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه أممًا كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته (كان) و(قد) عن (سوف) و(حتى)، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودًا لأهويتكم جنده، وشكر لكم الملائكة المنزلون، على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث؛ فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات.
فاحفظوا -رحمكم الله- هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي مَن تمسك بها سلم، ومَن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى، ومواقعة الردى، ورجوع القهقري، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا -عباد الله- أنفسَكم في رضاه إذ جعلكم من خير عباده، وإياكم أن يستزلَّكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم.
فاحذروا عباد الله -بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين- أن تقترفوا كبيرًا من مناهيه، وأن تأتوا عظيمًا من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهادَ الجهادَ فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حَسْم الداء، وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام: يا للثارات الإسلامية، والملة المحمدية، الله أكبر، فَتَحَ الله ونَصَر، غلبَ اللهُ وقَهَر، أذلَ الله مَن كَفَر.
واعلموا -رحمكم الله- أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحُوزُوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيِّروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65].
أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيّدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160].
إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تحل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلاَّم، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:294]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ أول الحشر، ثم قال: آمركم وإياي بما أمر الله به مِن حُسن الطاعة فأطيعوه، وأنهاكم وإياي عما نهاكم عنه من قُبح المعصية فلا تعصوه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.
ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مختصرة، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر، ثم قال: اللهم وأدم سلطان عبدِك الخاضعِ لهيبتك، الشاكرِ لنعتمك، المعترفِ بموهبتك، سيفِك القاطع، وشهابِك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذابِّ عن حرمك الممانع، السيدِ الأجل، الملكِ الناصر، جامعِ كلمة الإيمان، وقامعِ عبدة الصلبان، صلاحِ الدنيا والدين، سلطانِ الإسلام والمسلمين، مطهرِ البيتِ المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين.
اللهم عُمَّ بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظُنَّت الظنون، وابتُلي المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، ومَلِّكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها.
اللهم اشكر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجّار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم،
اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مرِّ الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار اليقين، وأجب دعاءه في قوله {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]. ثم دعا بما جرت به العادة".
ولقد تعمدت ذكر هذه الخطبة كاملة لما فيها من منافع جمة، كان في مقدمتها ظهور شخصية القاضي ابن الزكي -رحمه الله- القاضي والعالم والمؤرخ والأديب..، فضلا عن نيله شرف إلقاء "خطبة التحرير" -بأمر من صلاح الدين الأيوبي- من بين أقرانه الذين اشرأبت نفوسهم إلى ذلك الشرف السامي، وكان -بحق- أهلا لها.
وفـاتــه :
في دمشق في سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وخمس مائة توفي -رحمه الله- عن ثمان وأربعين عاما، ودفن بتربته بسفح قايسون.
وقد جاء في (البداية والنهاية) أنه في آخر حياته خولط في عقله، فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي، وأنه يقال: إن الحافظ عبد الغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال ومات وكذلك الخطيب الدولعي، وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى، فماتا في هذه السنة فكانا عبرة لغيرهما، ولا نجد تعليقا على هذه الرواية.
المراجع :
1- الوافي في الوفيات، ج1، ص508، 509.
2- البداية والنهاية، ج13، ص32.
* المصدر : موقع قصة الإسلام.