شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : الثواب المرتب على عدد الأحرف وغير المرتب


جمانة كتبي
07-17-2014, 02:38 AM
الثواب المُرتّب على عدد الأحرف وغير المُرتَب




لقد رتب الشارع الحكيم على لسان الحبيب صلى الله عليه وسلم ثوابًا على كل حرفٍ يُتلى من القرآن الكريم، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {آلم} حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف" [صحيح الترغيب والترهيب (2/77)]


فأيهما أفضل وأثوب: التلاوة بمرتبة التحقيق مع قلة مقدار ما يُتلى، أم التلاوة بمرتبة الحدر السريعة لتحصيل كثرة عدد الأحرف؟


إن النظر إلى حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- مجردًا يسوق إلى أفضلية عدد الأحرف على التدبر، لكن الفاصل هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن قَتادة قال: سألتُ أنسًا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كان يمُدُّ مدًّا" [صحيح البخاري (4/1924)]، وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: "قلتُ لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلةٍ مرةً أو مرتين، فقال ابن عباس: لَأن أقرأ سورةً واحدةً أعجبُ إليّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل!! فإن كنت فاعلًا ولابُدّ، فاقرأ قراءةً تُسمع أُذنَيك، ويعيها قلبك" [مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (1/7)]

* ابن القيم رحمه الله يجيب:

يقول ابن القيم رحمه الله في كلامٍ واضح نفيس: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجُّ وأرفعُ قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول كمَن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمتُه نفيسة، والثاني كمَن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتُهم رخيصة. [زاد المعاد (1/339)]
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليلة كاملة بآية واحدة يتدبرها، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً؛ فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]. [مسند الإمام أحمد بن حنبل (5/149)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن]
وقد أقام ابن عمر رضي الله عنه على حفظ البقرة سنين، ذَكَرَه مالك، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا}[ص:29]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}[المؤمنون:68]، وتدبر الكلام دون فَهم معانيه غير مُمكن. [شرح مقدمة التفسير (3/1)]
وروى القرطبي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورةَ أو نحوها، ورُزِقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآنَ –منهم الصبي والأعمى- ولا يُرزَقون العملَ به. [تفسير القرطبي (1/40)]
وعن أم المؤمنين حفصة بنت الفاروق رضي الله عنهما؛ أنها قالت في طائفة من حديثٍ عند الإمام مسلم، عن الحبيب صلى الله عليه وسلم: وكان يقرأ بالسورة فيُرتلها حتى تكونَ أطولَ من أطولَ منها [صحيح مسلم (2/164)]، أي أطولَ في زمن تلاوته لها لكونها تلاوة بطيئة؛ من السورة التي تفوقها طولًا إذا تلاها غيره لكونها تلاوة سريعة، والله أعلم.


* اختيار الإمام النووي رحمه الله:

قال النووي رحمه الله: والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمَن كان من أهل الفَهم وتدقيق الفكر؛ استُحبَّ له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني، وكذا من كان له شغلٌ بالعلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة؛ يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يُخل بما هو فيه، ومَن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى المَلل، ولا يقرؤه هذرمة. [نقله عن النووي ابن حجر في الفتح 9/97] .

* ما الفرق؟!

والظاهر من فعل السلف أنهم كانوا يقيمون على السورة من القرآن الكريم، يتعلمونَ ما فيها من الأحكام والعلم حتى تتشربها قلوبهم وعقولهم، ويُدرجونها في أعمالهم حتى تكون واقعًا تألفه جوارحهم سَليقةً وتطبُّعًا، فإذا قرأ أحدُهُم السورة من الطِّوَال بعد هذا التدبر الطويل في ليلةٍ واحدةٍ كان تأثره بها شديدًا، وتفاعله معها عظيمًا، كيف لا وقد أنفق في تدبرها السنين، وكابد في فهمها الليالي والأيام، وله عند كل حرف عبرةٌ وعبرة، وفي كل كلمة فكرةٌ وخَلجة، أما أن يكون كل عهدِهِ بها هو تلاوتها هذرمةً في ليلةٍ واحدةٍ، دون أن يكون سلفَ منه تدبرٌ لأجزائها وآيتها؛ فهذا هو المذموم.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عائشة رضي الله عنها؛ أنه ذُكر لها أنَّ ناسًا يتلون القرآن في الليل مرةً أو مرتين، فقالت: أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا، كنتُ أقوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمرُّ بآيةٍ فيها تخوُّفٌ إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآيةٍ فيها استبشارٌ إلا دعا الله ورَغِبَ إليه. [المسند (6/92)، ونقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (1/77)]





#كتاب: هكذا عاشوا مع القرآن | د. أسماء الرويشد


الطبعة الثانية من دار الحضارة للنشر والتوزيع.