شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : مغفرة الله لأهل بدر


جمانة كتبي
11-30-2012, 08:27 PM
مغفرة الله لأهل بدر

http://www.mnfonline.com/neww/uploads/sitep_1344177945.jpg" alt=""/>



قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر – رضي الله عنه -: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم" [رواه البخاري ومسلم]، أشكلَ على كثير من الناس معناه؛ فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع.

فقالت طائفة، منهم ابن الجوزي – رحمه الله -: ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال، وإنما هو للماضي، وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته.
قال: ويدلُّ على ذلك شيئان:
أحدهما: أنه لو كان للمستقل كان جوابه قوله: فسأغفر لكم.
والثاني: أنه كان يكون إطلاقًا في الذنوب ولا وجه لذلك. وحقيقة هذا الجواب: إني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم.

لكنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن لفظ "اعملوا" يأباه؛ فإنه للاستقبال دون الماضي. وقوله: " قد غفرت لكم" لا يوجب أن يكون اعملوا مثله؛ فإن قوله: "قد غفرت" تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله: { أتى أمرُ الله } [النحل:1]، و { وجآءَ ربُّكَ } [الفجر:22]، ونظائره.
الثاني: أن نفس الحديث يردّه؛ فإن سببه قصة حاطب – بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وقصته مشهورة في كتب التفسير والسيرة – وتجسُّسه على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر لا قبلها، وهو سبب الحديث، فهو مراد منه قطعًا.

فالذي نظن في ذلك، والله أعلم، أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرِّين عليه، بل يوفِّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك. ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقًا بالمغفرة. فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لَما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد، وهذا محال.

ومن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب؛ فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: "أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: أي رب، أنبت ذنبًا فاغفره لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم أذنب ذنبًا آخر فقال: أي رب أصبت ذنبًا فاغفره لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم أذنب ذنبًا آخر فقال: رب أصبت ذنبًا فاغفره لي، فقال الله: علمَ عبدي أنَّ له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فيعمل ما شاء" [رواه البخاري ومسلم]. فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات والجرائم، وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب تاب. واختصاص هذا العبد بهذا؛ لأنه قد علم أنه لا يصرُّ على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب، حكم يعمّ كل ما كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لأهل بدر.

وكذلك كل مَن بشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له، لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهادًا وحذرًا وخوفًا بعد البشارة منهم قبلها، كالعشرة المشهود لهم بالجنة. وقد كان الصدِّيق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر – رضي الله عنهم جميعًا -. فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيَّدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيّدة بانتفاء موانعها، ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال.





المصدر: كتاب [ الفوائد | الإمام ابن قيِّـم الجوزية ] المكتبة العصرية 1432هـ .