شبكة تراثيات الثقافية

المساعد الشخصي الرقمي

Advertisements

مشاهدة النسخة كاملة : صَخَب الشارع الشرقي في لوحات جان ليون جيروم


جمانة كتبي
02-06-2011, 12:53 AM
صَخَب الشارع الشرقي في لوحات جان ليون جيروم





استبقت المعرفة الشرقية, صورة الواقع الشرقي, في أذهان الرحالة والفنانين الأوربيين, فكان نزوعهم نحو الشرق (ملتقى الحضارات القديمة) نزوعا معرفيا مرادفا للإبداع والإلهام, بحثًا عن (النموذج) الذي ارتسم في مخيلتهم وإدراكهم عن: (الرائع).. و(المدهش).. و(الرومانسي)!

حتى منتصف القرن التاسع عشر, كانت قد تشكلت منظومة فكرية - فنية متكاملة من روائع الأدب وفن التصوير, أسهمت في اكتشاف عالم الشرق ومعطياته الجمالية.
فبلاد الشرق التي نهضت في أحضانها إبداعات فكرية وحضارية للعقل الإنساني, شكلت عالما متوهجا بروعة الإبداع وسحر الخلود.. فاجتذبت كثيرا من الأدباء والرحالة والفنانين, وكان من بين من عانقت فرشاتهم (ملامح الشرق) وثبتت لحظات زمنية من التاريخ والتراث وصخب الحياة, في الشوارع والبيوت والأسواق والمقاهي, الفنان الفرنسي (جان ليون جيروم) 1824 - 1904, أحد أشهر الفنانين المستشرقين في القرن التاسع عشر.

طاف (جيروم) بالعديد من بلاد الشرق, إلا أن (مصر) ظلت هي معشوقته الأثيرة! وأمضى أكثر من شتاء في (ذهبية) على النيل بالقاهرة, يدرس بعناية فنون العمارة الإسلامية, ويفتش بعيون الفنان والمؤرخ وعالم الآثار عن تفاصيل الحياة اليومية, والأحداث التاريخية وجنود الأرناءوط وتجار الرقيق وبائعي السلاح وتجار السجاد, والوكالات والمساجد والسواقي والعوالم!
كانت أولى زيارات (جيروم) لمصر - مستجيبا لإلهامات الشرق الغامض - عام 1854, ولوحاته الاستشراقية هي أبرز أعماله, التي احتلت الصدارة في معارض (صالون باريس) لمدة ثلاثين عاما.

وقد كتب جيروم يوميات رحلته الأولى في ثلاثين صفحة, تولى نشرها (مورو فوتييه), أيضا وصف تلميذه (بول لينوار) رحلة جيروم في كتابه المنشور عام 1872, كما استخدم الكاتب الصحفي (إدموند آبوت) الذي شارك جيروم في رحلته, الجزء المصري من الرحلة, كلوحة أساسية لقصته (الفلاحة) التي نشرت عام 1870 وأهداها إلى جيروم.

وقد ضم فريق هذه الرحلة, بعض الصحفيين والمصورين من أصدقاء جيروم: ألبير جوبيل, ليون يونات, فامارس تيستاس, ريتشارد جوبي, وفردريك ماسون, الذي روى جانبا من ذكريات هذه الرحلة في بعض مقالاته وقد وصف جيروم قائلا:
(... كأن جيروم ولد خاصة لهذه الرحلات النائية, التي تتطلب بنيانا قويا وفكرا حازما, يقف دائما دون كلل أو ملل. يقود القافلة بطريقة لا يمكن لأحد الاعتراض عليها, مع إشراقة كل صباح, كان يتولى الإشراف على أدق الأمور, وتوزيع المهام, ثم يمضي ساعات طويلة: يدخن.. يصيد.. يدون بعض ملاحظاته.. ويفتش بعيون الفنان والكاتب وعالم الآثار.. وما يكاد يصل إلى المعسكر, حتى يبدأ العمل, ولا يحول بينه وبين عمله مطر أو رياح! ثم ينظف الباليت وفرش الرسم.. ويالها من صحبة رائعة, حول مائدة, تحت خيمة!).

جمانة كتبي
02-06-2011, 12:56 AM
الرحلة إلى الأولى





كتب جيروم في يوميات رحلته الأولى:
(رحيلي إلى القاهرة.. إقامتي القصيرة في القسطنطينية فتحت شهيتي, كان الشرق هو حلمي الجميل, ربما, كان أحد أجدادي من البوهيميين, لأني أميل إلى الترحال, ومولع بالتنقل.
أرحل مع أصدقاء, أنا خامسهم, الجميع لا يحملون الكثير من المال, ولكنهم يفيضون نشاطا وحيوية.
الحياة المادية في مصر - في تلك الفترة - قليلة التكاليف, ولم تكن قد وقعت في براثن الغزو الأوربي بعد, نستأجر قاربا شراعيا, قضينا أربعة أيام على صفحة النيل, نصطاد ونرسم, في ترحالنا من دمياط إلى فيلة.
نعود إلى القاهرة حيث نقضي أربعة شهور أخرى, في أحد منازل سليمان باشا المؤجر لنا, وبصفتنا فرنسيين, فهو يستضيفنا في ود وترحاب, زمن الشباب السعيد والأمل والمستقبل أمامنا, الكثير من اللوحات, سواء منها ما سيحظى بنجاح كبير أو ضئيل, أو تحوز إعجاب الجمهور بدرجات متفاوتة, سوف أنتهي منها بعد هذه الإقامة على شاطئ (أبو الأنهار).
تلك أول سلسلة من الرحلات النظامية للشرق الأوسط, وبالأخص لمصر وآسيا الصغرى كان (إميل أوجييه) مؤلف المسرحيات الناجحة بصحبة جيروم, و(أوجست بارتولدي) مبدع تمثال الحرية والذي حمل معه ما يحتاج إليه من مواد التصوير الفوتوغرافي, ورسامين هما: بابي ونارسيس بيرشير. ولا مراء أن جيروم قد احتفظ بالصور الفوتوغرافية التي صورها بارتولدي لاستعماله الشخصي.
كتب (جوتييه), بعد زيارة إلى المرسم الجديد بشارع نوتردام دي شامب: (الفوتوغرافيا, التي تتقدم اليوم نحو الكمال الذي تعرفونه, تغني الفنان عن نسخ الآثار بوسائله, بدقة مطلقة, حيث إن حسن الاختيار لوجهة النظر والوقت المناسب, سيعطي للعمل قيمة كبيرة).




لقد وجه - جيروم - أعماله إلى تلك الناحية, فهو رسام تاريخ, وموهبته صقلتها الدراسة والخبرة, متأنق, ملتزم, مفعم بالإبداع, والإحساس الخاص.. الذي ستزداد أهميته بالنسبة للفنان في ذلك العصر, عصر التنقل العالمي السريع, حيث إن كل شعب من شعوب هذا الكوكب معرض للزيارة, ولو كان قابعا في بعض الجزر النائية!
أصبح التنقل أيسر وأسهل, والرحلة أكثر متعة.. سواء للاستمتاع بعناصر طبيعية جديدة, أو مشاهدة أطلال الأقدمين.. وللاستكشاف.. والبحث عن الغريب والمثير, والنموذج الحلم.. موتيفات شرقية تنتمي إلى زمان آخر ومكان آخر!




كتب جوتييه: (كان جيروم لطيفا, يتركنا نتصفح حافظته الغنية, ونشاهد رسوماته السريعة (الكروكي) التي رسمها بالقلم الرصاص, ملاحظات سريعة, مسجلة من الحقيقة وجها لوجه, دون استعداد, ودون ترتيب, وبدقة وعفوية أمينة, وتعبير ساحر, إن أقل ما أبدعه جيروم من رسومات سريعة (كروكي) كانت واضحة, وثابتة, ومحددة وانتهت بإهمالها..)!
(.. لقد قام الفنان الرحالة بعمل العديد من الدراسات بالصور الشخصية في منجم الرصاص وفقا لنماذج متميزة: الفلاحين, والأعراب, وزنوج مختلطي الدماء, أناس لو وضعوا تحت ملاحظة جيدة, لأمكن الاستفادة منهم في الأبحاث عن أصل الإنسان, أو علم الأجناس وتطورها وسماتها وتقاليدها فعلى سبيل المثال - ومازال الحديث لجوتييه:
الجمل, درسه رحالتنا من جميع جوانبه, في كل تصرفاته, وكل خطواته وكل مواقفه في المشي أو الراحة, وهو يجتر, وهو يحلم, وهو يلعق مشافره ويظهر أسنانه العارية.
لن ننتهي من ذلك إذا أردنا أن نذكر تفصيلات لا نهائية, والمسجلة على هذه الأوراق المنفصلة, ودراسة نخيل الدوم, والسواقي التي ترتفع مع عجلتيها أوان صغيرة مربوطة إلى بعضها كالمسبحة, ومقاهٍ, ووكالات وأماكن للاستراحة, وزوايا الأهرامات, وصورة جانبية لأبي الهول وفازات ذات خطوط ونقوش قديمة, وأبواب جوامع, كل ما تقدمه الصدفة للمسافر من جديد وغريب, إلى عين خبيرة تعرف كيف تنتقي, ويد متمرسة تعرف كيف تعبر وتبدع).




ولقد أثرى جيروم ذاكرة الفن بزيارات أخرى إلى مصر في السنوات 1862 , 1868 , 1869 , 1871 , 1874, وسنة 1880.
ويذكر فريديريك ماسون الذي اصطحبه مرة على الأقل, أن جيروم كان يعمل كل مساء وهو على المركب يرسم اسكتشات, ولا ينقطع عن الرسم حتى يحل المساء.
وتجدر الإشارة إلى أن جيروم قد شكل حمارا من الجص.. استخدمه في كثير من المناظر للشوارع, ولوحات تعرض المكاريين, ومناظر الشوارع التي أبدعها كلها في القاهرة.
في الشهور الأخيرة من حياة جيروم, غلبت الكآبة على لوحاته, فكانت وكأنها مجرد ديكورات في مسرح هجره الممثلون!
وشعر جيروم أن موضة الحكايات الحقيقية التي كان يعرفها قد ولت فكان يرسم دون اقتناع!
واستمر في إنتاج صور النساء في الحمام, حيث إن بيعها مضمون, وكان يحدث دائمًا أن يكرر الموديل عدة مرات في لوحة واحدة والوضع فقط هو الذي يختلف!
فمثلا يرسم الموديل في أوضاع مختلفة, فتارة جالسة بجوار حوض السباحة, وتارة أخرى على مقعد منحوت - لوازم المرسم التي يستخدمها من عشرات السنين.
أوضاع غير مريحة دائما, تذكرنا بأوضاع المرأة عند (ديجا).. وإن كان جيروم لم يحاول أن يضفي جمالا أخاذا تفتقده موديلاته, أو إظهارهن ممتلئات سمينات, يتثنى قوامهن في طيات تلهب المشاعر!

جمانة كتبي
02-06-2011, 01:01 AM
انبهار بالآثار الإسلامية








كان جيروم قد أعد نفسه لرحلة طويلة إلى مصر وآسيا الصغرى, ولذا فقد طلب إجازة مفتوحة من مدرسة الفنون الجميلة بباريس - التي كان أستاذا بها - تبدأ من أول يناير لسنة 1868, وكلف صديقه (جوستاف بولانجيه) برعاية مرسمه لحين عودته.

في التاسع من يناير سنة 1868, غادر جيروم مرسيليا متوجها إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة, وقد روى (لينوار) تفاصيل زياراته المتعددة للجوامع الأثرية مع جيروم, وسجل انبهاره بروعة العمارة الإسلامية, ودرس ورسم كل ما وقعت عليه عيناه, كما التقطوا صورًا فوتوغرافية, وكان لجيروم لقاء بالخديو إسماعيل, الذي تحدث عن أهمية عمل الرسام ورسالة الفن, ولذا فعقب عودة جيروم إلى باريس, أرسل إلى إسماعيل باشا, ألبوما يتضمن صورا فوتوغرافية لكل أعماله.















قضى جيروم شهرا مأخوذا بمعالم القاهرة الإسلامية, ثم اصطحب رفاقه مرشدًا وترجمانا, وتحت قيادته توجهوا إلى الجيزة, في 20 فبراير, على ظهور الحمير, وأقاموا معسكرا لمدة ثلاثة أيام, ثم اتجهوا جنوبا حتى وصلوا إلى (قنوات يوسف) الأسطورية المؤدية إلى واحات الفيوم, اصطادوا عددا من الخنازير البرية, وطوال ترحالهم لم يتوقف جيروم عن الرسم.
وفي قرية سنورس (مركز بالفيوم) وجه دعوة إلى فرقة من الراقصات ليرفهن عنهم في المعسكر, وقام لينوار وجيروم برسمهن وتصويرهن فوتوغرافيا, ثم واصلوا رحلتهم بعد ذلك إلى مدينة الفيوم, بعد أن تركوا أحد رفاقهم بالطريق, فعاد إلى ضفاف النيل, حيث لم يتحمل شدة الحرارة, وعلى مسافة أكثر من مائة كيلو متر من القاهرة, اكتشفوا بعض المناطق التي يقطنها قليل من البدو, ثم وصلوا إلى النيل عن طريق السكة الحديدية الجديدة, وفي مواقف كثيرة, كانت العربة التي يستقلونها, تفصل عن القاطرة وتتوقف على الطريق بوسط الصحراء, بينما السائق يذهب بالقاطرة لإحضار الوقود!
بعد عودتهم إلى الجيزة, استقلوا القطار إلى السويس, ومنها واصلوا رحلتهم إلى جبال سيناء, وقد عكست هذه الرحلة خبرة جيروم, وإعجابه الشديد بالأعراب, ومعرفته بطرائق حياتهم. وتجدر الإشارة إلى أن جيروم لم يكن يكتب أكثر من فقرة واحدة في اليوم من مذكراته اليومية.
أحاطت المهابة قافلتهم الجديدة, المكونة من عشرين رجلا, وسبعة وأربعين جملا أحدها مخصص لحمل معدات ومواد التصوير الفوتوغرافي.









بدأت المسيرة في 22 مارس, بمحاذاة الضفة الشرقية لخليج السويس, وفي السادس من أبريل, وصلوا إلى دير سانت كاترين وجبل سيناء, بعد أن كابدوا كثيرامن الأمطار والبرد القارس والعواصف الرملية, ضاعف جيروم من اسكتشاته, فكانت ساحرة في كثير من الأحيان, وبعضها ساذج, وقال صديقه جورنو إن جيروم كان يشعر بأن هذا آخر عبور له للصحراء, فرسم احتياطيا كبيرا كان كافيا لتغذية لوحاته لسنوات طويلة.قضوا أياما بدير سانت كاترين, كانوا يجهلون خلالها الكنوز التي اكتشفها سكورت فايتسمان) ثم ارتقوا جبل سيناء, حيث قام جيروم برسم اسكتش لمعركة (علميك) وواصلوا رحلتهم إلى خليج العقبة, ثم إلى مدينة (البتراء), حيث وقعوا فريسة لعصابة من قطاع الطرق لمدة أربعة أيام, يفرضون عليهم إتاوة يومية باهظة على ما يحملون من مؤن, ويزعجونهم أثناء جلساتهم للعمل والرسم أو التصوير الفوتوغرافي, ويطوفون حول خيامهم ليلاكتب جيروم في يومياته: (عند الرحيل, كان قطاع الطرق يصحبوننا ويقودوننا خلال طرق مخيفة حتى حدود أراضيهم, دائبين في طلب النقود, حتى الترجمان كان مضطرا لمنحهم المزيد حتى أفلس, غير أن أحدهم لم يكن راضيا عما حصل, عليه, فاعترض الطريق بحصانه, متكئا بإحدى ذراعيه على رمحه, والأخرى يلوح بـ (سبينجوك) - بندقية من طراز القرن السادس عشر - لقد كان مشهده رائعا ولكن قتله كان سيطيب خاطرنا, ومبعث سرور عظيم لنا)!ثم واصلوا الرحلة الشاقة إلى القدس, حيث تولى (بونات) قيادة القافلة التي واصلت السير إلى سورية, بينما توجه جيروم إلى يافا, ليستقل مركبا عائدا إلى مرسيليا.








إعداد : عرفة عبده علي



المصدر : مجلة العربي



الخميس 1 سبتمبر 2005 27/7/1426هـ / العدد 562